قالوا استقلَّ النِّيلُ قلتُ كذبتُمُ يا نيلُ هلْ أحسَسْتَ باستقلالِ...؟

بين كذبة استقلال النيل في مصر، والصلاة من أجل استقلال لبنان نروي: أنّ الشيخ بشارة الخوري دُعيَ إلى مقابلة رئيس الوزراء المصري نحّاس باشا في أيار 1942، ورافقه يومها الزعيم السوري مردم بك، وعندما انطلقا معاً في سيارة واحدة واقتربت السيارة من كنيسة كاترين في سيناء، استأذن الشيخ بشارة رفيقه السوري فزار الكنيسة وركع أمام تمثال القديسة كاترين وراح يصلّي طالباً منها تحقيق استقلال لبنان (1).

واليوم، وبعد ما يزيد على ثمانين سنةً نستذكر الشيخ بشارة الخوري، وكأنّ علينا أن نزور كلّ الكنائس حيثما وُجدتْ في العالم العربي، ونطوفُ حول «طوفان الأقصى» وكنيسة القيامة، نبتهل ونصلّي من أجل عودة هذا الإبن «الشاطر» الذي إسمهُ الإستقلال، «لنذبح له العجلَ المسمّن».

كمْ شمعةً تريدون أنْ نُضيء لمناسبة العيد الثمانين لاستقلال لبنان ...؟

وهل نتجرّأ ونتلو مع رشيد نخلة: كلّنا للوطن، للعُلى للعلم ...؟ أوْ، لكلّ فريقٍ علمٌ ونشيد، ولكلِّ طائفة وطـن، ولكلِّ وطـنٍ مذهب، ولكلِّ زعيم شعب، ولكلِّ شعبٍ لغـة، ولكلِّ حاكم دولة، ولكل دولة جمهور...؟

يقول جبران خليل جبران في كتابه «التائه»: «مسكينةٌ الأمة المجزّأة وكلّ جـزءٍ منها يَعتبِـرُ نفسه أمّـة...».

الإحتفال بعيد المولد، هو تأكيدٌ على وجود الكائن الحيّ، ولكنّ الكائن الذي يعاني حيويّة الحياة يصبح الإحتفال بـهِ، على غرار ما كان من إحتفالات أعراس الهندِ في القديم، والتي إنْ تحوّلت إلى مأتـم تظلّ طبول العرس تقرع بالفرح.

نفرح كمثل من يرقص من الألم، حول استقلالٍ مكبّلٍ بالأغلال، وسلطةٍ مطوَّقـة بالسلاسل، وحكومةٍ عرجاء تزحف على أقدامها، واستحقاقٍ رئاسيٍّ يخطفهُ الملثَّمون، وجيشٍ يُطعَنُ في الظهر بخنجر «بروتُس»، ودولةٍ أصبحت كمثل إلـهِ التمْـرِ الوثني في الجاهلية، يتعبّدون لـه عند الشبَع ويأكلونهُ عند الجوع.

نحن في الدستور لا يزال إسمُـنا دولـةً مستقلة، والشعبُ الذي هو مصدر السلطات وصاحب السيادة، يتخبّطُ في مهبِّ الإفلاس والإختلاس، وقطْعِ الأرزاق وقطْعِ الأنفاس، وتعالوا نحتفل بعيد الإستقلال وننشد: كلنا للوطن..

الإستقلال، يحقّقُهُ الرجال ويستمرّ بالرجال، هكذا انبثـقَ في لبنان، ثمّ راح يتلاشى تِباعاً، حتى بات اليوم يترنّح على أيدي فروخِ الزعامات، ومَنْ ولدتْهُمْ أمّهاتُهمْ بالزِنى الوطني.

في أول بيان حكومي لحكومة الإستقلال قال رياض الصلح: «لا يستقيم لوطنٍ كيانٌ واستقلال ما لـمْ تنبضُ لـهُ قلوبُ بنيـه جميعاً، وعلينا تأليف القلوب على حـبّ لبنان» (2).

وعلى عهد الإمبراطورية العثمانية أكثر الأمبراطوريات ظلماً وتعسّفاً، نبَضَتْ القلوب استقلالاً في وجه جمال باشا السفّاح، يـوم كانت قلوبُ الرجال تتوحّد بالـدم، ويـوم كانت الدموع والدماء تسيل على عُنـقٍ واحد، ويـوم كانت أرواح الشهداء تُـزهقُ على حبلٍ واحد.

عندما تنهار القِيمُ الوطنية والحضارية دفعةً واحدة، من دون أن يكون لدينا قيَمٌ بديلة، نصبح حقّاً أمام رهانٍ جهنّمي، فمَنْ يَفْلِت من فردوس الوطن، يقع في قبضة الشيطان وأفاعي الفردوس.

لستُ أدري في ظـلّ استمرار هذه المنظومة السياسية الفاسدة، ما سيكون عليه المصير الوطني، وما إذا كان علينا أنْ نركع أمام تمثال القديسة كاترين ونصلّي من أجل استقلال لبنان.

-1 من كتاب بشارة الخوري: وليد عوض - الجزء الأول: ص: 252 - 261.

-2 تاريخ لبنان: د. يوسف مزهر - ص: 1098.

QOSHE - الإستقلال وفُروخُ الرجال - جوزف الهاشم
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

الإستقلال وفُروخُ الرجال

4 0
24.11.2023

قالوا استقلَّ النِّيلُ قلتُ كذبتُمُ يا نيلُ هلْ أحسَسْتَ باستقلالِ...؟

بين كذبة استقلال النيل في مصر، والصلاة من أجل استقلال لبنان نروي: أنّ الشيخ بشارة الخوري دُعيَ إلى مقابلة رئيس الوزراء المصري نحّاس باشا في أيار 1942، ورافقه يومها الزعيم السوري مردم بك، وعندما انطلقا معاً في سيارة واحدة واقتربت السيارة من كنيسة كاترين في سيناء، استأذن الشيخ بشارة رفيقه السوري فزار الكنيسة وركع أمام تمثال القديسة كاترين وراح يصلّي طالباً منها تحقيق استقلال لبنان (1).

واليوم، وبعد ما يزيد على ثمانين سنةً نستذكر الشيخ بشارة الخوري، وكأنّ علينا أن نزور كلّ الكنائس حيثما وُجدتْ في العالم العربي، ونطوفُ حول «طوفان الأقصى» وكنيسة القيامة، نبتهل ونصلّي من أجل عودة هذا الإبن «الشاطر» الذي إسمهُ الإستقلال، «لنذبح له العجلَ........

© الجمهورية


Get it on Google Play