يتهدّج همسُ الريح في ديوان «النهاية والبداية» وهي توشوش بقصائد الشاعرة البولنديّة الحائزة جائزة نوبل فيسوافا شيمبورسكا، وتتمطّى في شبه دائرةٍ انحنائيّة تشبه دوران الكون حول نفسه وهو ينفث جوفه في صراعٍ دائمٍ بين الحياة والموت، ويستشهد على دلالات الحكمة والعقاب والثواب وتلك المصطلحات المكرّرة التي تعقب كلّ حدثٍ أو رمزيّةٍ حدثيّة.

لا بدّ أنّه الحنين يتفجّر من أعماق أنثى تغربلُ خشونةَ واقعها وتسربلُ معنى التآلف مع اليقظة النفسيّة، فتتجرّع المرارة بشتّى مواردها، بدءاً من الحروب الشرسة التي عاصرتها، والغربة الذاتيّة الرعناء التي تكبّدتها، فنراها في قصيدة «اليقظة» منتصبة مثل شجرةٍ تتمايلُ مع نسيم الخريف المُنذر بالعاصفة، تلجمُ وترجمُ وتحجمُ وتنادي، ثمّ تعودُ للجماد لتستقي معه معاني المجاز، وتتجاوزُ منقلبَ الخيال المتعمّق بالقليل من الواقعيّة ومسحةٍ من الهيروغليفيّة التاريخّية للأشياء: «اليقظة لا تتلاشى كما تتلاشى الأحلام/ لا همهمةٌ ولا جرسٌ يبدّدها/ لا صرخةٌ أو جلبةٌ تصدر عنها/ مشوّشةٌ وملتبسةٌ هي صورُ الأحلام/ ممّا يدفع لتفسيرها بطرقٍ عديدة ومختلفة/ اليقظة تعني اليقظة/ وهذا هو السرّ الأكبر/ للأحلام مفاتيح/ اليقظة تنفتح وحدها ولا تسمح بإغلاقها/ تتناثرُ منها الشهاداتُ المدرسيّةُ والنجوم/ تتساقطُ منها الفراشاتُ وسخّاناتُ المكاوي القديمة/ والقبّعاتُ بلا رؤوسها وجماجمُ النجوم/ يتكوّنُ من ذلك لغزٌ لا يمكن حلّه/».

لكنّ فيسوافا لم تقتنع بالقشور المعلنة للظاهرات المتجليّة لناظرها، فاتّخذت قراراً حاسماً في توصيف ما تراه وتوظيفه بأسلوبٍ يجمع بين الفلسفة والسخرية لتثبط من هيكليّة الفجيعة التي تركتها في داخلها الحرب وصراعاتها، فحسمت أمرها بأن تصعّد من هذه الخصوصيّة الشعرية التي تكتنف داخلها وتطلقها مثل طائرةٍ مصوّبة نحو السماء. فتجسّدت في قصيدتها «السماء» المشاعر الكينونيّة لخيال وابداع امرأةٍ تنشد الحريّة للأوطان والأدغال والغابات والانسانيّة، وتجشّمت خطر الانزلاق بين تقاطع الكلمات الشعريّة التي تشكّل تناقضاً نوعيّاً فقالت: «من هذا كان يجب البدء: السماء/ نافذة بلا إفريز، بلا إطار، بلا زجاج‏/ فجوة ليس إلا‏/ لكنها مشرّعة برحابة‏/ لست ملزمة بانتظار ليلة رائقة/ بأن أرفع رأسي‏ لأجيل النظر في السماء‏/ السماء خلف ظهري، تحت يدي، على جفنيّ‏/ السماء تلفّني بإحكام‏/ وتحملني من أسفل، حتى أعلى الجبال/ ليست أقرب إلى السماء‏/ من أعمق الوديان‏/ ليست متواجدة في مكان، أكثر من مكان آخر‏/‏ الغيمة على حد سواء‏/ كالقبر مطمورة بالسماء/».

تصدّت فيسوافا للحرب بقصائدها الانتقاديّة التي تتأجّج بالغضب المتستّر بالحروف المخفّفة، ويُلحظُ في أسلوب كتابتها بأنّ هذا الدمار قد هشّم في أعماقها صلابة إيمانها بحريّةٍ تُبنى على التسامح والتآزر، وربّما لاحظت بأنّ هذا الانهيار والانبهار الداخلي الذي غلّف منطقة لاوعيها، بات مهتزّاً بلا قاعدةٍ تستتبّ عليها حتّى تكتبَ رأيها الواضح والأخير في كلّ ما عايشته. وقد جاءت قصيدتها «النهاية والبداية» نموذجاً مختصراً لكلّ ما يقتنصُ متاعبَها النفسيّة، وقد بدأت بكلمة النهاية قبل أن تثبَ لتلتقطَ كلمة البداية ربّما لأنّ التعبيرَ الأوّل يعني النهاية المستمرّة أو اللف والدوران في منطقة الصداع السياسي والصراع الإنساني نفسه، فتلحّ في التساؤل وتتشظّى في نزق الحزن وتقول: «بعد كلّ حرب ثمّة من عليه أن ينظّف/ مثل هذا النظام لا يتم وحده/ ثمّة من عليه أن يدفعَ الحطام إلى نواصي الطرقات/ لكي تمرّ العرباتُ الملأى بالجثث/ ثمّة من عليه أن يغوصَ في الوحل والرماد/ في عتلات الأسرة/ في شظايا الزجاج والخرق المدماة/ ثمّة من عليه أن يجرّ العارضة لاسناد الحائط/ من يضع الزجاج في النافذة ويركّب البابَ على المفاصل/ ثمّة ما يزال يستذكر ما كان وبيده المكنسة/ ثمّة من يُصغي برأسه موافقاً غير المقطوع/ لكن بالقرب منهم يشرع بالتحرّك أولئك/ الذين سيضجرهم مثل ذلك/ ثمّة من أحياناً/ يستخرج من تحت الأجمات/ البراهين التي علاها الصدأ/ وينقلها إلى محرقة النفايات/».

استطاعت الشاعرة فيسوافا شيمبورسكا أن تتجهّز بخمار النقد كي تجهزَ على أعدائها المتخيّلين من صانعي الحروب وخونة الأوطان والمتسبّبين في انكسار الأرواح الشقيّة، ففي سرادق الحواة ومنافذ الطغاة ينتفضُ قلمها معترضاً ومعارضاً، معتبراً بأنّ الخرابَ لا يعمّرُ حتّى البلدان المنتصرة، ولا يعيد الأرواح التي أزهقت في سبيل نظامِ البلدان الجائرة، وقد تملّكتها الجرأة وأتاها الانفراد النوعيّ وليس الكمّي في كتاباتها فقد كانت مقلّة في قصائدها، ورغم شبه الغياب المجازي عن تعبيراتها وبوحها، إلا أنّها أمسكت بزمام القلم بثبات، ولم تستهلك الكثيرَ من مخيّلتها في تصوير الخيال، بل استعانت بالواقع المحيط بها والمثخن بالوجع والرحيل والنحيب، ولم تب قصائدها عن بولندا ودول العالم، بل لُحّن الكثير منها وخلّد في إطار التقدير لعطائها الفكري والمعرفي الثاقب.

QOSHE - فيسوافا شيمبورسكا شاعرة كنّست بحروفها السماء - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

فيسوافا شيمبورسكا شاعرة كنّست بحروفها السماء

8 0
25.11.2023

يتهدّج همسُ الريح في ديوان «النهاية والبداية» وهي توشوش بقصائد الشاعرة البولنديّة الحائزة جائزة نوبل فيسوافا شيمبورسكا، وتتمطّى في شبه دائرةٍ انحنائيّة تشبه دوران الكون حول نفسه وهو ينفث جوفه في صراعٍ دائمٍ بين الحياة والموت، ويستشهد على دلالات الحكمة والعقاب والثواب وتلك المصطلحات المكرّرة التي تعقب كلّ حدثٍ أو رمزيّةٍ حدثيّة.

لا بدّ أنّه الحنين يتفجّر من أعماق أنثى تغربلُ خشونةَ واقعها وتسربلُ معنى التآلف مع اليقظة النفسيّة، فتتجرّع المرارة بشتّى مواردها، بدءاً من الحروب الشرسة التي عاصرتها، والغربة الذاتيّة الرعناء التي تكبّدتها، فنراها في قصيدة «اليقظة» منتصبة مثل شجرةٍ تتمايلُ مع نسيم الخريف المُنذر بالعاصفة، تلجمُ وترجمُ وتحجمُ وتنادي، ثمّ تعودُ للجماد لتستقي معه معاني المجاز، وتتجاوزُ منقلبَ الخيال المتعمّق بالقليل من الواقعيّة ومسحةٍ من الهيروغليفيّة التاريخّية للأشياء: «اليقظة لا تتلاشى كما تتلاشى الأحلام/ لا همهمةٌ ولا جرسٌ يبدّدها/ لا صرخةٌ أو جلبةٌ تصدر عنها/ مشوّشةٌ وملتبسةٌ هي صورُ الأحلام/ ممّا يدفع لتفسيرها بطرقٍ عديدة ومختلفة/ اليقظة تعني اليقظة/ وهذا هو السرّ الأكبر/ للأحلام مفاتيح/........

© الجمهورية


Get it on Google Play