ليس القصد من هذا التحقيق الاستقصائي التشهير بأسماء ومؤسسات تتكرّر اسماؤها بين سطوره، وإنما الإضاءة على شخصية فلسطينية عايشت الانتداب الانكليزي ثم الاحتلال الاسرائيلي، قبل ان تنتقل الى إحدى دول الخليج وتتمكن بذكائها وحنكتها، من التحوّل من مجرد موظف في محل لبيع الذهب، إلى اكبر تجار وصنّاع وتذويب المعدن الأصفر، ومن شركتها الأم في الخليج أسست شركات رديفة حول العالم.

يسلّط هذا التحقيق الاستقصائي الضوء على رجل امتلك المال والسلطة ليصبح في خلال فترة قصيرة «عرّاب» تجار الذهب وتهريبه وتذويبه بطرق غير شرعية، أدخلت اسمه وابنتيه وعدداً من شركائه التجّار و«المبيّضين» في اللائحة السوداء لدى بعض العواصم الغربية، ما اضطره وحلفاؤه مراراً الى الاستعانة بجوازات سفر بأسماء مستعارة لمواصلة تجارتهم في السوق السوداء.

هو منير كالوتي صاحب شركة كالوتي ومصانعها في شتى أنحاء العالم. سيرته الذاتية تكشف عن فصول مثيرة في حياة هذا الفلسطيني الذي اكتوى بظلم الانتداب الانكليزي ومن ثم بالإرهاب الاسرائيلي، الذي ما أن امتلك القدرة حتى انطلق في مشاريعه الواحد تلو الآخر، وتغلّبت على سلوكياته نزعات الفساد، بحيث يستحيل في هذه السطور القليلة الإلمام بكل الفضائح المالية التي رافقت تطور «شركة كالوتي» للذهب، في الخليج او في كثير من العواصم وحقّق وشريكه منذر المدقّة، اكبر «امبراطورية ذهبية» حول العالم تنشر تجارتها المشبوهة، بدءاً من الخليج الى الولايات المتحدة وبريطانيا والمغرب العربي والسودان وإفريقيا واميركا الجنوبية، إذ انّ له في كل هذه المناطق عواصم ومدناً واريافاً وسواحل، ومصانع ومكاتب تمثيل وشركات وسماسرة وعملاء وضباط شرطة وقضاة وسياسيين، يدفع لهم رواتب شهرية، او على «القطعة»، لتمرير اعماله المشبوهة، وهو حرّ طليق يتمتع بسلطتي المال والنفوذ.

وفي بعض فضائح كالوتي، شخصاً ومؤسسات، التي تشكّل غيضاً من فيض من مسيرة تضجّ بالأسرار والعمليات المشبوهة. يروي مسؤولون سابقون في وزارة الخزانة الاميركية أكثر من حادثة غسل اموال تورطت فيها شركته في منطقة الخليج، وتلكأت واشنطن، سياسياً وامنياً، في صيد المسؤولين عنها ومعاقبتهم. ويقول هؤلاء المسؤولون، انّ واشنطن تخوفت في هذا المضمار من إغضاب إحدى حليفاتها من الدول الخليجية التي رفضت إجراء التحقيقات فبقيت القضية مفتوحة، حتى بعد ثلاث سنوات من البحث، وقد جمع محققون اميركيون مجموعة من الأدلة والشهود، ما اتاح متابعة التحقيقات المستمرة حتى اليوم، حيث اعتمدت «شركة كالوتي» التعامل بـ«الكاش»، وبلغت الاموال المدفوعة نقداً ارقاماً خيالية. وحسب احد المحققين فإنّ هذه الاموال نُقِلت في عربات تُجّر باليد، وغالباً ما تتلقّاها شركة مشتبه فيها وتحوّلها لاحقاً الى شركات مشابهة تعمل لمصلحة كالوتي.

في مواجهة ذلك، كشف محققون في الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين انّهم «يشعرون بالحيرة وخيبة الأمل»، ورأوا انّ من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، كشف عمليات «شركة كالوتي» وقمعها. فيما لفت مسؤولون سابقون في وزارة الخزانة الاميركية الى التحّديات الكبيرة التي يواجهها المسؤولون الحاليون في ملاحقتها، ويرون أنّ الامر يتطلّب قوة سياسية وقضائية نافذة لوضع هذه الشركة خلف القضبان.

وإلى هذه التحدّيات وما رافقها من احابيل ودفع اموال نقداً ومن خلال عملاء منتشرين حول العالم، كان لا بدّ للحقيقة من ان تظهر وتكشف فضائح مالية كبيرة ارتكبتها «شركة كالوتي»، وهكذا عندما خرج التحقيق الى العلن بعد مسار طويل من التحقيقات الجنائية المالية، تبيّن تدفق اكثر من تريليون دولار في معاملات مشبوهة مع مؤسسات مالية كبرى بينها «جي بي مورغان» و «دويتشه بنك»، وبالتالي إنفاذ الجرائم المالية التابعة لوزارة الخزانة الاميركية، فوجّهت تحذيرات إلى كالوتي حول آلاف من المعاملات المشبوهة التي بلغت قيمتها 9,3 مليارات دولار، وتمت بين العامين 2007 -2005، وتمّ تخصيص تدفقات هذه المبالغ لغسل الاموال، ما دفع عدداً من المصارف الى إجراء تحقيقات خاصة قيل انّها كشفت عن تورط كالوتي المباشر في هذه العمليات.

وامام هذه الحقائق، بادر المسؤولون في «شركة كالوتي» الى النفي القاطع لأي مزاعم عن سوء السلوك في عمليات تبييض الاموال وتسييل الذهب في السوق السوداء، وبالتالي عدم مشاركتها مع أي «مجرم» او «جماعة اجرامية»... لكن الحقائق على الارض دحضت هذا النفي، وكشفت انّ ما حصل خلال السنوات الخمس الماضية، يشير الى تورط كالوتي في غسل الاموال حول العالم.

وواضح انّه لطالما اعتبرت اجهزة إنفاذ القانون تجارة الذهب نقطة ضعف رئيسة في الحرب الشرسة ضدّ غسل الاموال، خصوصاً انّ تجار المخدرات والجماعات المسلّحة يستخدمون الذهب لغسل الاموال وتمويل النزاعات، كما يدعمون أعمال تعدينه وتنقيته في مصفاة كالوتي، فضلاً عن دعم تجارة الجنس وعمالة الأطفال... وقد أظهرت ملفات جهاز مكافحة الجرائم المالية انّ التحقيقات مع «شركة كالوتي» تجاوزت المراقبة الروتينية. ولكن مع اكتساب التحقيق الاميركي زخماً، تصدّرت المخاوف من ممارسات كالوتي التجارية المشبوهة عناوين الصحف في بريطانيا وفرنسا وبعض العواصم الاوروبية والاميركية والآسيوية.

وافاد شريك سابق في مكتب «ارنست اند يونغ» الشركة المتخصّصة في القضايا المالية، انّ «شركة كالوتي» نقلت ذهباً مصدّراً من المغرب على انّه فضّة وفق اوراق مزورة، وكذلك اكتشف مراجعو الحسابات في شركة التدقيق العالمية انّ «شركة كالوتي» اشترت الذهب من السودان، وانّ المعدن الاصفر النفيس موّل مجموعة ميليشياوية هي قيد التحقيق بتهمة الإبادة الجماعية من دون فحص دقيق لموردّيها.

ويُقال انّ التحقيقات كشفت في بعض مراحلها تورط احد المصارف اللبنانية بارتكابات مشبوهة مع كالوتي، وذلك عبر تحويل مبالغ بمئات ملايين الدولارات الى الولايات المتحدة، في إطار عمليات غسل اموال متسلسلة شُحِنت الى اميركا الجنوبية لدفع رواتب مورديه من الكوكايين، وقد خلصت التحقيقات الى تصنيف وزارة الخزانة الاميركية هذا المصرف اللبناني على انّه مصدر قلق اساسي في شأن غسل الاموال، وهو الأمر نفسه الذي ارتبط بشركة كالوتي من قبل.

(* يُتبع في حلقات لاحقة: اسرار ووثائق ومقابلات)

QOSHE - كالوتي «العرّاب» و«خزّان» الفضائح - طارق ترشيشي
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

كالوتي «العرّاب» و«خزّان» الفضائح

4 0
28.11.2023

ليس القصد من هذا التحقيق الاستقصائي التشهير بأسماء ومؤسسات تتكرّر اسماؤها بين سطوره، وإنما الإضاءة على شخصية فلسطينية عايشت الانتداب الانكليزي ثم الاحتلال الاسرائيلي، قبل ان تنتقل الى إحدى دول الخليج وتتمكن بذكائها وحنكتها، من التحوّل من مجرد موظف في محل لبيع الذهب، إلى اكبر تجار وصنّاع وتذويب المعدن الأصفر، ومن شركتها الأم في الخليج أسست شركات رديفة حول العالم.

يسلّط هذا التحقيق الاستقصائي الضوء على رجل امتلك المال والسلطة ليصبح في خلال فترة قصيرة «عرّاب» تجار الذهب وتهريبه وتذويبه بطرق غير شرعية، أدخلت اسمه وابنتيه وعدداً من شركائه التجّار و«المبيّضين» في اللائحة السوداء لدى بعض العواصم الغربية، ما اضطره وحلفاؤه مراراً الى الاستعانة بجوازات سفر بأسماء مستعارة لمواصلة تجارتهم في السوق السوداء.

هو منير كالوتي صاحب شركة كالوتي ومصانعها في شتى أنحاء العالم. سيرته الذاتية تكشف عن فصول مثيرة في حياة هذا الفلسطيني الذي اكتوى بظلم الانتداب الانكليزي ومن ثم بالإرهاب الاسرائيلي، الذي ما أن امتلك القدرة حتى انطلق في مشاريعه الواحد تلو الآخر، وتغلّبت على سلوكياته نزعات الفساد، بحيث يستحيل في هذه السطور القليلة الإلمام بكل الفضائح المالية التي رافقت تطور «شركة كالوتي» للذهب، في الخليج او في كثير من العواصم وحقّق وشريكه منذر المدقّة، اكبر «امبراطورية ذهبية» حول العالم تنشر تجارتها المشبوهة، بدءاً من الخليج الى الولايات المتحدة وبريطانيا والمغرب العربي والسودان........

© الجمهورية


Get it on Google Play