يرسّخ الكاتب الفرنسي ميشيل بوسي كتاباته كنزعةٍ انسانيّة في تجاوزيّةٍ مطلقةٍ للزمن، وتحديدٍ مكثّفٍ للمكان، لتنبض روايته «نيلوفر أسود» بتمكينٍ حارّ وجارف في ينابيع السرد الغربي، الذي يبتكر معالم الوجدان ويتحايل عليه بأهوسةٍ مطبقةٍ على مجاهل النفس البشريّة التي ما زالت تبرمج حواراتها على أساس معتقداتها مهما بلغت حدّتها أو سعتها. فزوارق الوحي عنده لم تبحر بعد بانتظار الحلّ الأخير الذي ينتظر تسلّم ازدراء الحدث.

في «جيفرني» مدينة الرسام الشهير مونيه تدور الأحداث، ويتجاذب معصم تحرّكاتها إيقاع الفن الذي تزخر به معالم المكان وترابي به لتتوّج أشواط الجريمة وغموضها ببساطة هويّة القاتل الذي موّهه الزمن المتراكم كالغبار على طاولةٍ خشبيّةٍ معتّقة، ولكنّ المفاجأة لم تكن في اكتشافه ولكن في تدوير عقارب الزمن إلى الوراء ثمّ الأمام ثمّ ما بعد الحاضر.

تروي القصّة بطلتها وهي عجوز طاعنة في السن تقيم في برج الطاحونة المشرف على النهر برفقة كلبها نيبتون الذي يعرفه أهل القرية كلّها ويقومون بالتودّد إليه، وتشهد بنفسها جريمة قتل الطبيب جيروم مورفال جرّاح العيون المتزوّج والذي ذيع صيته في معاشرة النساء واصطيادهنّ برقّته وأمواله وتعامله الماكر، فقد سدّد لهم أحدهم ضربة قاتلة في الرأس وقام بعدها بإغراقه في النهر.

يبدأ المفتش سيريناك برفقة المفتش سيلفيو في مطاردة القاتل وجمع الأدلّة الجنائيّة لتجريمه، تحوم الشبهات حول عشيقاته اللواتي أرسل أحدهم صوراَ لهن برفقة القتيل إلى مركز الشرطة، وتحديداً بالمدرّسة الجميلة ستيفاني دوبان المتزوّجة من جاك دوبان، خصوصاً بعد أن يعثر رجال الشرطة على بطاقة معايدةٍ لطفلٍ في الحادية عشرة من عمره في جعبة القتيل، فيتبادر إلى ذهن المحقّق بأنّ للقتيل طفل غير شرعي خاصّة وأنّه لم يرزق بزواجه بطفل.

تنكر المدرّسة سيتفاني علاقتها بالقتيل وتشدّد على براءتها، ويقع سيريناك سريعاً في عشقها وكأنّها تمنحه طراوتها، يجمعهما الولع الهائل بالرسم وبقصائد الشاعر لويس أراغون، ولكنّها تجد صعوبة في التحرّر من قيود الزواج التي تأسرها خاصّة أنّ زوجها جاك رجل لطيف ويحبّها حبّاً شديداً. تحوم الشبهات حول زوجها جاك في جريمة قتل جيروم مورفال، وتورّطُه بعض الأدلّة بأنّه ارتكب الجريمة بدافع الغيرة ولكن سرعان ما تتم تبرئته لعدم كفايتها. تصارحه ستيفاني بعد إطلاق سراحه برغبتها بالانفصال عنه ويدرك بأنّها وقعت في علاقةٍ روحيّة تراسليّة بالمفتش سيريناك فينصب له كميناً ويهدّده بسلاحه ليكتب رسالة لستيفاني بأنّه ينفصل عنها ويستودعها ذكرياتهما معاً ويقوم بقتل الكلب نبتون أمام عينيه، فينفّذ سيريناك ما طُلب منه ويخطّ بضع كلمات لستيفاني ويطلب نقله إلى مكانٍ آخر بعد أن استنفذ الأمل في أن يعثر على المجرم أو أن يجتمع بحبيبته المتزوّجة من مجنونٍ مختل.

يركّز بوسي في فصلٍ من الرواية على حكاية طفلة تدعى فانيت وصديقيها بول وفينيست، وفانيت هي طفلة تهوى الرسم وتجمعها صداقة برسّام عجوز يدعى جيمس يقيم في الخلاء ويقوم بتشجيعها وتعليمها الرسم، ولكنّ صديقها فينيست يقوم بطعنه خوفاً من أن يأخذها جيمس معه إلى أميركا وتتخلّى عنه، وينقل جثّته إلى مكانٍ مجهول، تخبر فانيت بول بجريمة فينيست فيعتقد بأنّها تهذي أو أنّ الخيالات تتراءى لها بسبب تركيزها الشديد في الرسم، ولكنّ فينيست يقوم بقتل بول أيضاً بإغراقه في النهر بعد عراكٍ دامٍ بينهما بسبب تعرّض الأوّل للفتاة بشكلٍ مزعجٍ ودائم.

يتّضح لنا في نهاية الرواية بأنّ القاتل واحد، فجاك هو فينسيت الذي أطلقت عليه فانيت أو ستيفاني أو العجوز التي تروي القصّة هذا الاسم لولعها بالأسماء الفنيّة للرسّامين المشهورين، وجيروم مورفال هو صديق طفولةٍ لهم جميعاً رافقهم في طفولتهم وبدأ يتقرّب من ستيفاني بعد أن أصبح طبيباً فخاف جاك أن يخطف منه ستيفاني، فيقوم بقتله كما قام بتهديد المفتّش سيرينك ليقصيه عنها، وقد ابتاع لستيفاني كلباً جديداً بدل نيبتون الذي قتله وادّعى أمامها بأنّ أحد الصّيادين قد قام بقتله، وقد صارحها بجريمتيه وهو على فراش الموت حتّى يبعد عن صدره شبح الوهم دون أن يبدي أيّ ندمٍ أو أسف.

تنتهي الرواية عندما تسمع العجوز ستيفاني طرقاً على الباب ونباح الكلب نيبتون وهو يستقبل الزائر، وتسمع صوت المفتّش سيريناك يأتيها من وراء أكوام السنوات التي غبرت ويشقّ إليها سبيلَ الشوق، فتنظر إلى المرآة وترى بأنّها عادت جميلة وصغيرة وكأنّها استعادت كلّ شبابها المهدور وتنخرط معه بروحها وجسدها.

في الرواية تفصيلٌ جميل لمعالم جيفرني وتراثها العريق وتسلّط الضوء على فنّ كلود مونيه والقبض على شاكلة الرسم الانطباعي الذي يمتدحه الكاتب ليطعّم روايته بالفنّ والترحّل والتجواب والتجوال بين بيارق جماليّاتها. ويضع تحت لواء التحوّل ظاهرة الجريمة التي كانت وما زالت منذ قديم الزمن وسوسة تنخر في عتمة الذهن البشري القابل للانهيار، دون أن يتحرّر من بعض النواقص المزعجة مثل تبنّي القارئ لهويّة القاتل منذ بداية الرواية وحتّى السطور الأخيرة لها.

QOSHE - «نيلوفر أسود» بين رعونة الجريمة وعقارب الزمن - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

«نيلوفر أسود» بين رعونة الجريمة وعقارب الزمن

8 0
28.11.2023

يرسّخ الكاتب الفرنسي ميشيل بوسي كتاباته كنزعةٍ انسانيّة في تجاوزيّةٍ مطلقةٍ للزمن، وتحديدٍ مكثّفٍ للمكان، لتنبض روايته «نيلوفر أسود» بتمكينٍ حارّ وجارف في ينابيع السرد الغربي، الذي يبتكر معالم الوجدان ويتحايل عليه بأهوسةٍ مطبقةٍ على مجاهل النفس البشريّة التي ما زالت تبرمج حواراتها على أساس معتقداتها مهما بلغت حدّتها أو سعتها. فزوارق الوحي عنده لم تبحر بعد بانتظار الحلّ الأخير الذي ينتظر تسلّم ازدراء الحدث.

في «جيفرني» مدينة الرسام الشهير مونيه تدور الأحداث، ويتجاذب معصم تحرّكاتها إيقاع الفن الذي تزخر به معالم المكان وترابي به لتتوّج أشواط الجريمة وغموضها ببساطة هويّة القاتل الذي موّهه الزمن المتراكم كالغبار على طاولةٍ خشبيّةٍ معتّقة، ولكنّ المفاجأة لم تكن في اكتشافه ولكن في تدوير عقارب الزمن إلى الوراء ثمّ الأمام ثمّ ما بعد الحاضر.

تروي القصّة بطلتها وهي عجوز طاعنة في السن تقيم في برج الطاحونة المشرف على النهر برفقة كلبها نيبتون الذي يعرفه أهل القرية كلّها ويقومون بالتودّد إليه، وتشهد بنفسها جريمة قتل الطبيب جيروم مورفال جرّاح العيون المتزوّج والذي ذيع صيته في معاشرة النساء واصطيادهنّ برقّته وأمواله وتعامله الماكر،........

© الجمهورية


Get it on Google Play