من خلال شخوص حكايته، بدءاً من ربّ الأسرة الجد الباشكاتب المسكين، الذي يمثل دور الإنسان الصابر المثابر الرادع الحاضن للمصائب، ويمسك أسلاك المصاعب بقلبٍ مؤمن متذكّراً حكاية صديقه القديم الشيخ المتصوف الذي يحمل البركات في كفّه والرحمة في قلبه يغدقها على القلوب بطمأنينة وحبٍّ مطبق بسكينة على الصدور الواجفة ويرويها لابنه وأحفاده. ولكنّ الجد يخفي في صدره سرّاً رغم إيمانه الساذج، وهو ضعفه أمام النساء وأجسادهن بالرغم من تقدّمه في العمر.

وتبدأ حكاية الجد كما يرويها لحفيده عندما تزوّج وأنجب ولداً وحيداً يدعى شعبان وكرّس نفسه لتربيته بعد وفاة زوجته، ولكنه خيّب آماله في العلم والنجاح فوجّهه للتجارة فلم يُبدع فيها بسبب انطوائيته وبلادته. وقد تزوج ولده شعبان وأنجب ولدين هما: سالم وفوزية. ويحاول الجد أن يمسك بتلابيب الأمل من جديد من خلال إغداق الإهتمام على سالم لتعليمه فيبزغ نجمه في التفوق ويسطع أمله في تهيئته لمنصبٍ كبير، ولكنّ مرضاً نفسيّاً يداهم حفيده وتعتريه نوبات من الخوف والجنون، فيقوم بشتم جدّه وأخته وأبيه في كلّ نوبة، ولا ينفع معه علاجٌ نفساني، فيتغاضى الجميع عن مرضه ويعتادون عليه، ويتابع هو تحصيل علمه حتى يبلغ أبواب الجامعة.

يدخل سالم إلى الجامعة، وفي تلك الأثناء تتزوج أخته فوزية من جارهم الفقير المعدم، بعد أن سلّمته نفسها إثر حبّ كبير، ويتولّى الجد مهمة مساعدتها المادية بعد ارتباطها وإنجابها وخيبتها في زوجها الذي يقوم بتعنيفها إثر كلّ خلافٍ بينهما بسبب ضيق الحاجة.

الحياة تسلّ أبواق الهموم تنفخ في سور العتمة وتتضَخّم عاتية تقتبس الرياح من مرقدها وتجترّ الآلام على الجميع. فالجد يمرض وسالم يقع في حب فتاة غنية تدعى لبنى تتخبط أقدامها من قبله بآثام لعلاقات جسدية، وتسجن بسبب ميولها السياسية التي تلجأ إليها هرباً من حقيقة ضياعها بين طلاق أبويها وحرمانها من الحنان.

وتُعاود سالم نوباته الجنونية بقوة وتجعله طريح الفراش، ويسود الحزن والغم في أنحاء المنزل. ثم يبدأ بالتعافي بعد مرور وقتٍ غير قصير، ويضطر أن يعمل لمساندة جدّه العليل وأخته الشقية في مصروف المنزلين.

النهاية في الرواية مغبّشة وغير واضحة تعبث بتوقعات القارئ بشكلٍ ساذج تماماً كالحوار الطويل الذي يعود بنا لكلاسيكية الرواية القديمة التي تقوم قوائمها على أسلوبٍ رتيب مع أنّه كتبها بعد روايته «خالتي صفية والدير» بكثير، والفرقُ شاسعٌ بينهما من حيث المعالجة الفنية الدقيقة وتركيب الحبكة واستدراج مخيلة القارئ وتهيئة البيئة الملائمة لعناصر التأثير المشهدي.

بهاء طاهر لم يقدّم ولم يؤخر في عالم الرواية بكتابته لروايته «نقطة النور» التي جَنّد فيها الحوار كالحائط المنيع لتعثر التصاعد الحدثي في تسلسلها، ولم يستطع أن ينال من جذب السمكة اللامعة في بحيرة الإبداع أو يتماسك في تثبيث أشرعة مركبه، فغلبه موج الرتابة وألقى قلمه في قالب التعقيد الدرامي في هيكل البنية، فلم يتمرّد ليتفرّد ولم يرصّص الآجر للحدث حتى يخصّص في المدح والثناء الفني ولم ينجُ من سيل النقد الأدبي.

تندرج رواية طاهر في زاوية راكدة، خالية من الإنفعالات النفسية والجوهرية المفترضة في قوالب الإنسانية، فهو لم يبحث عن الحلول المنطقية للعقدة في ثنايا الأحداث، ولم يجرف أحاسيس المتلقّي في دوّامة التشويق والإنتظار، فأخفق رغم مساحاته الإبداعية الكبيرة في تطويق رواياته السابقة، واستوى سطح الحكاية مع سمائها، فلم يتمكن القارئ من التحليق بين الأرض والسماء.

QOSHE - نسيجٌ من الحرير السردي في رواية بهاء طاهر - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

نسيجٌ من الحرير السردي في رواية بهاء طاهر

5 0
04.12.2023

من خلال شخوص حكايته، بدءاً من ربّ الأسرة الجد الباشكاتب المسكين، الذي يمثل دور الإنسان الصابر المثابر الرادع الحاضن للمصائب، ويمسك أسلاك المصاعب بقلبٍ مؤمن متذكّراً حكاية صديقه القديم الشيخ المتصوف الذي يحمل البركات في كفّه والرحمة في قلبه يغدقها على القلوب بطمأنينة وحبٍّ مطبق بسكينة على الصدور الواجفة ويرويها لابنه وأحفاده. ولكنّ الجد يخفي في صدره سرّاً رغم إيمانه الساذج، وهو ضعفه أمام النساء وأجسادهن بالرغم من تقدّمه في العمر.

وتبدأ حكاية الجد كما يرويها لحفيده عندما تزوّج وأنجب ولداً وحيداً يدعى شعبان وكرّس نفسه لتربيته بعد وفاة زوجته، ولكنه خيّب آماله في العلم والنجاح فوجّهه للتجارة فلم يُبدع فيها بسبب انطوائيته وبلادته. وقد تزوج ولده شعبان وأنجب ولدين هما: سالم وفوزية. ويحاول الجد أن يمسك بتلابيب الأمل من........

© الجمهورية


Get it on Google Play