يتّفق الخبراء في شؤون الشرق الأوسط بوجود ثلاث عقبات رئيسية تتمسّك بها حكومة بنيامين نتنياهو، لتبرير استمرار اندفاعها في المجزرة المفتوحة في غزة منذ أقل من شهرين ونصف الشهر.

وقبل التطرّق الى هذه العقبات الثلاث، لا بد من الإقرار بأنّ هذه الحرب أسقطت ما كان يعتبر نقاط ضعف إسرائيلية في الحروب. والمقصود هنا ما كان يُعرف تاريخياً بأنّ إسرائيل لا تستطيع تجاوز مدة زمنية محددة لحروبها، والتي حدّدت بشهر واحد كحد أقصى.

أما اليوم فمن الواضح أنّ المعضلة الحقيقية هي برفض إسرائيل الذهاب الى وقف لإطلاق النار طالما لم تتحقق أهدافها والتي تتلخّص «بتفكيك» حركة حماس، وهي ما تزال على قرار استدعائها لقوات الإحتياط رغم الخسائر الكبيرة على المستوى الإقتصادي.

أما نقطة الضعف الثانية فتتلخص حول ملف الأسرى، حيث لم يحل ذلك دون التخفيف من حِدة المجازر الحاصلة، ولا الى وضع المجتمع الإسرائيلي له كأولوية مطلقة.

لكن في الوقت نفسه أظهَر سير القتال أنّ هذا الجيش الاسرائيلي يعاني ضعفاً خطيراً على المستوى القتالي، وأنّ الاسلحة المتطورة شكّلت تعويضاً له، إضافة الى الدعم العسكري الأميركي المفتوح. فلقد بَدا أنّ العزيمة القتالية الفلسطينية لا تقارن بالمستوى المتدني للجيش الاسرائيلي.

وبالعودة الى العقبات الثلاث التي تتذرّع بها الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، فإنّ واشنطن مستعجلة لإقفال الملف الحربي تمهيداً للشروع في تسويات سياسية واسعة تطال خارطة نفوذ جديدة في المنطقة ترقى الى مستوى «يالطا» جديدة.

وفي الذرائع الاسرائيلية أولاً أنّ إيقاف القتال من دون تفكيك التركيبة العسكرية لحماس سيؤدي الى نتائج عكسية لناحية إعلان حماس لانتصارها، وبالتالي استعادة قوتها العسكرية عبر الدعم الإيراني خلال السنوات المقبلة. ما يعني بالنسبة لإسرائيل التحضير لحرب جديدة مستقبلاً ستكون أعنف وربما أكثر تهديداً لوجود إسرائيل، وهو ما يفترض وفق المنطق الإسرائيلي الاستمرار في الحرب حتى إنجاز المطلوب، وأنّ المطلوب عسكرياً الآن إنجاز معركة الانفاق، رغم إقرار الاسرائيليين بأنها معركة صعبة وطويلة وغير مضمونة.

أمّا الذريعة الثانية فتتعلق بعدم اتّضاح الصورة حول مستقبل غزة والضفة وسط رفض إسرائيلي لأيّ نوع من أنواع «حل الدولتين» الذيترفضه غالبية الشارع الاسرائيلي. فلقد أظهرت آخر الإستطلاعات والتي أجراها المعهد الاسرائيلي للديمقراطية، أنّ 52% من الاسرائيليين يرفضون حل الدولتين، في مقابل 35% فقط يؤيّدونه. ونقل عن نتنياهو قوله خلال لقاءاته مع المسؤولين الأميركيين أنّ اتفاق أوسلو أنتجَ منذ توقيعه الويلات والكوارث، وهو ما يعني أن لا عودة إليه.

أمّا العائق الثالث فهو داخلي ولا يُجاهر به نتنياهو وائتلافه الحكومي، ويتعلّق بالمأزق الداخلي والمحاسبة القاسية التي تنتظره، مع احتمال دخوله السجن وتدمير سجله السياسي بالكامل.

وللموضوعية، فإنّ الموقف الأميركي الفعلي يختلف عن الموقف الرسمي المعلن. ففي الحقيقة تُبدي الادارة الأميركية تفهمها لاستمرار اسرائيل في حربها، وهي تستمر في تأمين الدعم المالي والعسكري لها.

قد تكون واشنطن تأمل بإنجاز خطوة تفكيك حركة حماس والتي ستعني فك الارتباط العسكري الاسرائيلي الإيراني في الداخل الفلسطيني وإلغاء هذه الجبهة، ما يَصبّ في صالح التسوية الكبرى الجاري العمل عليها في المنطقة.

وعندها يصبح أكثر يسراً العمل على فك الإرتباط الإيراني الاسرائيلي في الجبهتين المتبقيتين، وهما الجولان وجنوب لبنان.

لكن المشكلة أن الحكومة الإسرائيلية المتطرفة تعمل على تهجير نهائي لفلسطينيي غزة ودفعهم الى صحراء سيناء، والأشَد خطراً نواياها لدفع فلسطينيي الضفة باتجاه الأردن وهو ما سيضع الاردن أمام مخاطر داخلية كبيرة.

لكن ثمة أفكاراً أميركية سيجري طرحها عندما يحين الوقت وتتعلق بدور اقتصادي لغزة كبديل عن الدور العسكري. على أن يتولى هذا الإخراج فلسطينيون يحملون الجنسية الأميركية، حيث يجري تحضيره لإدخالهم من باب الاستثمار الاقتصادي. وما يشجّع واشنطن في هذا الاتجاه ارقام استطلاعات الرأي والتي كانت أظهَرت قبل أيام معدودة من عملية «طوفان الاقصى» أنّ 73% من الغزّاويين كانوا يفضلون التوصل الى تسوية سلمية للصراع مع أسرائيل في مقابل نسبة 20% كانت تؤيّد الحل العسكري وفق مؤسسة «الباروميتر العربي» الأميركية.

وفي الوقت الذي تعطي فيه واشنطن لإسرائيل الوقت الذي تطالب به، باشَرت الحركة الأميركية بتحضير الأفكار المطروحة حول خارطة نفوذ سياسية جديدة، والتي يواكبها تَخاطب موازٍ ولكن بالنار.

فما يحصل في البحر الأحمر هو «لغة» تفاوضية بالنار بين واشنطن وطهران لتحديد دائرة النفوذ. فالممرات المائية التي تشكل مدخولا ماليا هائلا، تعمل إيران على تثبيت حضورها فيها من خلال رسائل استهداف السفن عبر الحوثيين.

لكن الملفت للنظر تلك المتغيرات التي تطال ساحات أخرى تشكل فيها إيران حضورا متميزا.

فمثلاً بدأ يظهر همساً حول وجود مفاوضات أميركية ايرانية تتعلق بانسحاب أميركي عسكري من العراق. وهو ما سيعطي إيران أولوية ملء هذا الفراغ، وبالتالي تعزيز قبضتها على العراق، لا سيما أنّ السنة والأكراد غير قادرين على تولّي ملء الفراغ العسكري الأميركي في حال حصوله، رغم سعيهم دائماً للتوازن مع إيران.

ورأى البعض أنّ رسالة استهداف السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء في بغداد يمكن إدراجه في إطار ترتيب الإخراج المطلوب.

أما على الساحة السورية فالصورة معكوسة حيث يجري خلق وترتيب إدارات محلية متفرقة تعطي الانطباع عن النظام السياسي الجديد الذي ينتظر سوريا، ما يُضعف التأثير الايراني، والذي تتركّز قوته على مستوى السلطة المركزية للنظام في دمشق.

فمثلاً إنّ إنشاء ادارة ذاتية في الجنوب إنطلاقاً من السويدا إنما يأخذ مساره التطبيقي، مع ملاحظة انكفاء النظام عن أية ردة فعل.

والأهَم ما ظهر خلال الأيام الماضية حول الشروع في إنشاء إدارة ذاتية في شمال شرق سوريا الغني بالنفط. وتلحظ هذه الادارة المدنية نشوء 7 مقاطعات على أن تتضمن مؤسسات مستقلة قائمة بحد ذاتها كمؤسسة الرقابة والمحكمة الدستورية إضافة الى الشرطة وما شابه. واعتمدت هذه الادارة لغات ثلاث اعتبرت رسمية، وهي: العربية والكردية والسريانية.

وهذه الخطوة تعتبر متقدمة باتجاه الفدرالية، والتي ستلاقيها لاحقاً منطقة إدلب حيث ينشغل الجولاني في إحكام قبضته على كامل منطقته عبر تصفية أي تنظيم قد يُزاحمه على السلطة مستقبلاً.

واللافت أيضاً في سوريا إصدار السلطات في دمشق سلسلة قوانين تلغي القرارات الرسمية السابقة، والتي كانت تساوي بين اللاجئ الفلسطيني بحقوق المواطن السوري على الأراضي السورية. وجرى إصدار قوانين جديدة تجعل معاملة الفلسطينيين كما جميع الاجانب، وبالتالي وضع شروط جديدة للتملّك تعتبر شروطها صعبة التحقيق على الفلسطينيين. وهي خطوة لها معناها العميق في هذه الظروف بالذات.

ذلك أنه بعد انتهاء الحرب ثمة استثمار سياسي سيحصل، وخطابات تخوين وتَنازع على تسويق ذلك بين القوى الاقليمية. ولا شك أنّ الساحات السنية ستكون الأكثر تأثراً ما سيدفع باتجاه التركيز على «فَوعة» للاخوان المسلمين، وهو ما قد يَطال لبنان أيضاً.

أما على المستوى اللبناني فالتحضيرات بدأت لجعل الجنوب يواكب المشهد الشامل والعام، ولم تشذ وتيرة الحرب الصغيرة الدائرة عن لغة التخاطب بالنار. فرفع وتيرة الحرارة الحربية وتجاوز القصف الخطوط المعروفة وشمولها العمق اللبناني، إنما تعتبر رسائل موازية للحركة التفاوضية في الكواليس.

لذلك تبرّعت باريس بإيجاد مكان لها في نقل الرسائل والسعي لترتيب حلول. وكذلك أعطت اللجنة الخماسية الدور «القيادي» لفرنسا عبر جان إيڤ لودريان الذي سيعود باندفاع أقوى الشهر المقبل، ومتسلّحاً بوحدة موقف بالكامل بين الدول الخمس.

ورأت المجموعة الخماسية في التزام الفريق الشيعي في موضوع قيادة الجيش إشارة إيجابية يُعوّل عليها. وبالنسبة لديبلوماسي غربي مطلع بأنّ مشاركة «حزب الله» في جلسات مجلس النواب إشارة مهمة ومعبّرة، وهي تطغى على خطوة انسحابه عند تعديل القانون لصالح التمديد لقائد الجيش، والتي كانت خطوة مفهومة ومتوقعة.

واستطراداً، فإنّ هذه الاشارات تؤكد على أنّ ابواب الحروب ستبقى موصدة، وأن «حزب الله» يثبت واقعيته مرة جديدة.

لكن هذا لا يعني انتظار نتائج الحلول غداً. فثمة مسار لا بأس به سيأخذ طريقه الكافي، والذي سيلحظ بداية إنجاز تفاهمات جدية على المستوى الأميركي الإيراني قبل انجاز التسوية اللبنانية وانتخاب رئيس جديد والاتفاق على الحكومة المقبلة وبرنامج العمل، كي يشارك لبنان في المؤتمر الإقليمي المُزمع عقده لإنجاز خارطة النفوذ السياسي الجديدة.

تبقى إشارة الدخول السعودي جدياً الى الملف اللبناني بعد طول استنكاف، والتي قد يكون لها علاقة بتَدارك واقع الساحات السنية بعد انتهاء الحرب والنمو المتوقع للتيارات الاسلامية المتطرفة كنتيجة لتداعيات الحرب، ما يستوجِب الالتفات الى الساحة السنية اللبنانية المشلّعة والتي ستشكّل إغراء لكل مَن ينوي العبث أبعد من لبنان.

وختاماً، وفي هذا الإطار رصد سلوك سعودي جديد مع الرئيس سعد الحريري من خلال إشارات عدة قد يكون من السابق لأوانه التعويل عليها، ولكن في الوقت نفسه هي إشارات مختلفة عن القطيعة الكاملة التي كانت قائمة منذ إعلانه خروجه من الحياة السياسية اللبنانية.

QOSHE - إشارات لبنانية مشجّعة وسط البركان المشتعل - جوني منير
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

إشارات لبنانية مشجّعة وسط البركان المشتعل

4 0
18.12.2023

يتّفق الخبراء في شؤون الشرق الأوسط بوجود ثلاث عقبات رئيسية تتمسّك بها حكومة بنيامين نتنياهو، لتبرير استمرار اندفاعها في المجزرة المفتوحة في غزة منذ أقل من شهرين ونصف الشهر.

وقبل التطرّق الى هذه العقبات الثلاث، لا بد من الإقرار بأنّ هذه الحرب أسقطت ما كان يعتبر نقاط ضعف إسرائيلية في الحروب. والمقصود هنا ما كان يُعرف تاريخياً بأنّ إسرائيل لا تستطيع تجاوز مدة زمنية محددة لحروبها، والتي حدّدت بشهر واحد كحد أقصى.

أما اليوم فمن الواضح أنّ المعضلة الحقيقية هي برفض إسرائيل الذهاب الى وقف لإطلاق النار طالما لم تتحقق أهدافها والتي تتلخّص «بتفكيك» حركة حماس، وهي ما تزال على قرار استدعائها لقوات الإحتياط رغم الخسائر الكبيرة على المستوى الإقتصادي.

أما نقطة الضعف الثانية فتتلخص حول ملف الأسرى، حيث لم يحل ذلك دون التخفيف من حِدة المجازر الحاصلة، ولا الى وضع المجتمع الإسرائيلي له كأولوية مطلقة.

لكن في الوقت نفسه أظهَر سير القتال أنّ هذا الجيش الاسرائيلي يعاني ضعفاً خطيراً على المستوى القتالي، وأنّ الاسلحة المتطورة شكّلت تعويضاً له، إضافة الى الدعم العسكري الأميركي المفتوح. فلقد بَدا أنّ العزيمة القتالية الفلسطينية لا تقارن بالمستوى المتدني للجيش الاسرائيلي.

وبالعودة الى العقبات الثلاث التي تتذرّع بها الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، فإنّ واشنطن مستعجلة لإقفال الملف الحربي تمهيداً للشروع في تسويات سياسية واسعة تطال خارطة نفوذ جديدة في المنطقة ترقى الى مستوى «يالطا» جديدة.

وفي الذرائع الاسرائيلية أولاً أنّ إيقاف القتال من دون تفكيك التركيبة العسكرية لحماس سيؤدي الى نتائج عكسية لناحية إعلان حماس لانتصارها، وبالتالي استعادة قوتها العسكرية عبر الدعم الإيراني خلال السنوات المقبلة. ما يعني بالنسبة لإسرائيل التحضير لحرب جديدة مستقبلاً ستكون أعنف وربما أكثر تهديداً لوجود إسرائيل، وهو ما يفترض وفق المنطق الإسرائيلي الاستمرار في الحرب حتى إنجاز المطلوب، وأنّ المطلوب عسكرياً الآن إنجاز معركة الانفاق، رغم إقرار الاسرائيليين بأنها معركة صعبة وطويلة وغير مضمونة.

أمّا الذريعة الثانية فتتعلق بعدم اتّضاح الصورة حول مستقبل غزة والضفة وسط رفض إسرائيلي لأيّ نوع من أنواع «حل الدولتين» الذيترفضه غالبية الشارع الاسرائيلي.........

© الجمهورية


Get it on Google Play