في مغارة أبصر النور، يتدفَّأ بأنفاس الخِراف في معزل عن أرجاس البشر...

«ويوم جاء كان شـرُّ البشر قد كثُـرَ في الأرض وارتدّوا عن الربّ فهلكوا بفعل شرورهم (1)..»

ملكاً في مزودٍ وُلـد، ولأنّ مملكته ليست من هذا العالم فإنّ صولجان مزودِ الخرافِ هـزَّ عرش ملك اليهود.

ولمّا سمع هيرودس أنّ المجوس جاؤوا يسجدون أمامـه، وقدّموا له الهدايا، إضطرب خائفاً كيف يولد مَـنْ يُسمّيه المجوس ملكَ اليهود لينازعه على العرش، «فأمر بقتل جميع أطفال بيت لحـم من سنتين وما دون لعلّ المسيح يكون من بينهم» (2).

أليس من حقّ اللاّهوتيينَ والمؤرّخين أنْ يطرحوا السؤال...؟

لماذا أمرَ هيرودس بقتل الأطفال حتى عمر السنتين ما دام يعلم أنّ المسيح قد وُلدَ حديثاً...؟

ألَمْ يستطع جواسيسُه أنْ يكتشفوا مكان المولود وقد تحلّق الناس حول المجوس، لو لم تكن نفسُ ملك اليهود جيّاشةً بنزعـة الشرّ وغريزة القتل...؟

فكلُّ مَـنْ هو غير يهودي كما جاء في كتاب التلمود: «روحـه شيطانية وأرواح اليهود وحدهم جـزءٌ من الله (3)»، وأنّ الههَـمُ المحارب يقود معركتهم لتحقيق انتصاراتهم على الشعوب الأخرى.

وعلى الرغم منْ أنَّ الديانة اليهودية كانت تنهى عن ذبح الخنزير لأنها تحـرّم أكلَ لحمـهِ، إلاّ أنّ هذه الديانة لا تحرّم ذبحَ الأطفال.

وعلى خُطى هيرودس العهد القديم كان هيرودس هذا العهد أشدَّ هولاً، وقد تطوّرت على يـده آلـة الفتك، واستيقظت في ذهنه رؤى غُـرفِ الغاز ومدافنِ العظام وأفـران الجثث فارتفع معه معدّل الجريمة والكفر إلى مستوى الجنونِ الدموي، وإغراقِ بيوت الأبرياء وبيوت اللـه في دم الجريمة.

عندما تستفرس الحيوانية في ذات الإنسان يصبح مخلوقاً متوحّشاً، هكذا كان شأن «نيرون» فما ارتوى من هـدْرِ الدم حتى قتل زوجته وأخاه وأمَّهُ وانتهى بإحراق روما، ولكنّه لما رأى جسد أمّـهِ عاريةً بعد الموت قال: «لـم أكنْ أدري أن لي أمّـاً بمثل هذا الجمال».

لعلّ ما يُرهبنا في هذا الزمان هو انعكاس روح الشرائع عن مفهومها الإنساني، فانتشرت الغرائز النيرونية والهيرودسية في غير دولة ونظام وأصبح البطشُ بالإنسان كأنّه مذهبٌ سياسي يُمارَسُ ضدّ الآخر وضـدّ الذات على السواء، فإذا لكل هيرودوس تاريخي هيرودس خلف.

مثلما أنّ شراسة هيرودس الأول جعلت يوسف النجّار يهرب بالطفل وأمّـه مريم إلى مصر لإنقاذه من الموت، هكذا يحاول هيرودوس الخليفة أن يجعل أهـل «غـزّة» يهربون مع أطفالهم إلى مصر إنقاذاً لأرواحهم.

آلة الشرّ الشيطانية أول ما استهدفت الرسل والأنبياء، ولكنْ مثلما كُـتِبَ لإبنـة فرعون أن تنقـذَ موسى من الموت، ولأطفال بيت لحم أن ينقذوا المسيح، كُـتبَ أيضاً للإمام علي بأن ينام في فراش الرسول لإنقاذه.

لقد كان موسى ضعيفاً أمام فرعون فزال فرعون واستمر موسى كليمَ اللـه.

وكان المسيح ضعيفاً أمام هيرودس فزال الملك العظيم واستمرَّت ديانة المسيح أبديّـة في الأرض.

وكان النبي ضعيفاً أمام قريش فزالت قريش واستمرَّت دعوة محمد رسالة إيماناً أبدياً.

ولن تكون «غـزّة» ضعيفة أمام دولة نتنياهو، فقد يزول نتنياهو وتستمر غـزة، وأرواحها البريئة تُنقد الأراضي المقدسة موئل بلاد الأنبياء إلى العالمين.

يـوم كانت أورشليم واقعةً تحت سخْط اللـه قال لها المسيح: «ستأتي أيام يحيط بـك أعداؤك يحاصرونك من كـلّ جهـة ولا يتركون فيكِ حجراً على حجر (4)..».

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 - تكوين: 6 - 5.

2 - متى: 2 - 16.

3 - من نصوص التلمود: 72 - 74.

4 - لوقا: 19 - 42 - 44.

QOSHE - طفل بيت لحم وهيرودس وأطفال غزّة - جوزف الهاشم
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

طفل بيت لحم وهيرودس وأطفال غزّة

14 0
22.12.2023

في مغارة أبصر النور، يتدفَّأ بأنفاس الخِراف في معزل عن أرجاس البشر...

«ويوم جاء كان شـرُّ البشر قد كثُـرَ في الأرض وارتدّوا عن الربّ فهلكوا بفعل شرورهم (1)..»

ملكاً في مزودٍ وُلـد، ولأنّ مملكته ليست من هذا العالم فإنّ صولجان مزودِ الخرافِ هـزَّ عرش ملك اليهود.

ولمّا سمع هيرودس أنّ المجوس جاؤوا يسجدون أمامـه، وقدّموا له الهدايا، إضطرب خائفاً كيف يولد مَـنْ يُسمّيه المجوس ملكَ اليهود لينازعه على العرش، «فأمر بقتل جميع أطفال بيت لحـم من سنتين وما دون لعلّ المسيح يكون من بينهم» (2).

أليس من حقّ اللاّهوتيينَ والمؤرّخين أنْ يطرحوا السؤال...؟

لماذا أمرَ هيرودس بقتل الأطفال حتى عمر السنتين ما دام يعلم أنّ المسيح قد وُلدَ حديثاً...؟

ألَمْ يستطع جواسيسُه أنْ يكتشفوا مكان المولود وقد تحلّق الناس حول المجوس، لو لم تكن نفسُ ملك اليهود جيّاشةً........

© الجمهورية


Get it on Google Play