ذاب سردُ شكسبير عبر تمثيليّاته واقتباساته الفكريّة في مذهب الشكوكيّة الذي اعتبره رصداً للكون وتأويلاً لمحوره المتقلّب بين الحقيقة والخيال، وتَشعّبت مصادر تكهّناته وغرفَ من تجانس العقول والمعلول المحرّك للسببيّة حتّى أنّه صُنّف بشهادةِ الكثيرين على أنّه فيلسوف متميّز رغم اهتمامه الجَم بعالم الأدب.

وقد شاطَر أفلاطون بعباراتٍ مجازيّة تلخّصُ العدم والموت وتمهّد للترويج بزيف الحقيقة الواهية للحياة فاستخدم كلمة «كهف» للتعبير المثير والتنديد بالماورائيّات، والتي تقحم حياةَ الإنسان فتبترُ جوهرها.

وقد حفلت مسرحيات شكسبير بموائد انسانيّة تشمل العبوديّة والخديعة والمكر والشر والوهم لتعكس في شظايا المرآة المنكسرة على حائط الكون سخف هذا التحرّك الروتيني الذي يقوم به الانسان من المهد إلى اللحد، والذي ينتهي بالسكون الشامل والعدم المحق وربّما يخالف تعليمات أفلاطون في هذا الحيّز المتطرّف في دمج الخيال بالأحداث الواقعيّة والتي يقتبسها الكاتب من خلال لمحات أو ومضات انسانيّة مرّت به أو سمع بها وعايَشها ذاتيّاً أو عبر بصيرة غيره. وقد قال شكسبير عن الغيرة: «إنّ النفوس الغيورة لا تهتم بالبراءة ولا تجيئها في الغالب نوباتها عن سبب بل تغار لأنّها تغار، وما الغيرة إلا بهيمة شاذّة تُلقَّح من نفسها وتتولد من نفسها». وهذه الفلسفة قريبةٌ لتحليل أفلاطون الذي انتقد الثورة الكبتيّة للنفس الناضحة بالسوء، والتي تكتم ولا تفصح عن واجهتها الحقيقيّة إلّا من خلال أعمالٍ تعذيبيّة وتخريبيّة.

أمّا عن كونه قد نهل من المدرسة الأفلاطونيّة فهناك آثارٌ واضحة تشهد على هذه الحقيقة، ويبقى الاختلاف الواضح بين العاطفة التي سار بها شكسبير واستخدمها ناراً لوقود المشاعر المتأجّجة التي حفلت بها قلوب أبطاله، وبين الواقع الحاد الذي انتهجه أفلاطون في جمهوريّته الفاضلة والتي تزخر بالتصوير المعنوي للأخلاقيّات والمثاليّات، وربّما كان انشغال شكسبير الواضح بالتمثيل السردي قد شغله عن شَحذ قدرة التعابير على تحويل الفلسفة إلى حقيقة يؤمن بها ويجاهر في تفكيره الأدبي.

وقد عجّت هذه الكتابات والمسرحيّات الخالدة لشكسبير بالعذابات الجمّة ويَمّمت وجهها جهة الشك ومجابهة التضليل واستعذبت دفق المشاعر الباطنيّة، واستعراض الخوارق من السحر والأكاذيب والخرافات لتبرهن ضعفها وعدم مصداقيّتها، ولم تكن كتابته متعذّرة على السبر والغوص في داخليّتها ولكنّها تحلّت بيسر وسهولة التفسير وتخلّلها وثباتٌ من الهوى وابتكاراتٌ للغيب والمجهول، ابتعد بها بعض الشيء عن مسار أفلاطون في إقصاء العاطفة عن كلّ تفكيرٍ متعقّل وواع، لكنّه يستعيد معه الطرق المؤدّية نحو الفضيلة التي آمنَ بها شكسبير والتي تجلّلها مذاهب العظمة والتكبير.

ربّما لم يُعرف شكسبير كفيلسوف كغيره من الأدباء أمثال دوستويفسكي وغوته وغيرهما، ولكنّه استخدم الفلسفة إلى أقصى حد في غزل مواقفه ومعتنقاته النفسيّة التي مرّر من خلالها مداعباته وتهكّماته وحواره الخصب مع النفس والآخر، ولم يَنحز لأحدٍ من الفلاسفة على وجه التحديد ولكنّه في اللاوعي استحضَر فلسفة أفلاطون في الكثير من أفكاره.

QOSHE - التوازن الفلسفي الضمني بين أدب شكسبير وفلسفة أفلاطون - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

التوازن الفلسفي الضمني بين أدب شكسبير وفلسفة أفلاطون

4 0
29.12.2023

ذاب سردُ شكسبير عبر تمثيليّاته واقتباساته الفكريّة في مذهب الشكوكيّة الذي اعتبره رصداً للكون وتأويلاً لمحوره المتقلّب بين الحقيقة والخيال، وتَشعّبت مصادر تكهّناته وغرفَ من تجانس العقول والمعلول المحرّك للسببيّة حتّى أنّه صُنّف بشهادةِ الكثيرين على أنّه فيلسوف متميّز رغم اهتمامه الجَم بعالم الأدب.

وقد شاطَر أفلاطون بعباراتٍ مجازيّة تلخّصُ العدم والموت وتمهّد للترويج بزيف الحقيقة الواهية للحياة فاستخدم كلمة «كهف» للتعبير المثير والتنديد بالماورائيّات، والتي تقحم حياةَ الإنسان فتبترُ جوهرها.

وقد حفلت مسرحيات شكسبير بموائد انسانيّة تشمل العبوديّة والخديعة والمكر والشر والوهم لتعكس في شظايا المرآة المنكسرة على حائط الكون سخف هذا........

© الجمهورية


Get it on Google Play