يعيش الكثير من المبدعين في عزلةٍ تميل الى التقوقع الذاتي، والانعكاف الكلّي عن محيطهم العابق بأنفاس البهرجة الانفعاليّة، حتّى يأمنوا لعالمهم الخاص الذي يمدّدون فوق رخام سكينته آمالهم وأحلامهم ويأسهم وبؤسهم الذي قد يجهلون مصدره، لأنّ مشاعرهم المتضاربة تتعرّض للانتكاسات العابرة دونما سبب معيّن.

وقد كانت الشاعرة الأميركية ايملي ديكنسون، ومنذ غضاضة الغضن، تميل للألفاظ المردّدة للوحدة، والمعنى المكرّر الذي يدور حولها، وكأنّ العزلةَ قد عصفت بها عصفها فتآكلت أحاسيسها وتجسّدت من خلال قصائد حزينة في أغباش الوحشة النفسيّة التي تهصرُ روحها وتشهق بدلالات السكون المطبق الذي يحرّرها من التواصل الغيري ويأسرها في التوحّد النفسي المشدّد الذي يعقد حول قلبها طوقه مثل شرنقةٍ تزهقُ وقتها ولكنّها توسّع مداركَها ومجاهلَ مكامنها.

وقد ساعدتها هذه الوحدة في تجهيز عدّة سفرها المجازي نحو عوالم أخرى انفتحت عن طريقها على أحوال الطبيعة التي كانت تذرو مفاتنها ذروَ الريح على بصيرتها، فحكت وبكت وكتبت من جوارح أحلامها، الشاخصة عن عالم البشر، ذاك العالم الذي لم تستطع ديكنسون أن ترتبط به لهشاشة استطاعتها عن تكوين علاقات اجتماعيّة، رغم فرط حساسيّتها ورقّتها، فقد تنبت بغتةً مباضع الخجل كي تقصيها عن الآخرين وتلدعها مثل سوطٍ موحشٍ عنيف، فيتّهمها من حولها بالأناتيّة والنرجسيّة لأنّهم يجهلون مدى تعلّقها بعالمها الشاعري الخاص ومعاناتها الذاتيّة في تأسيس علاقاتٍ مع من حولها.

في قصيدة «هذه رسالتي إلى العالم» تقول: «أنا لا أحد. من أنت؟ وهل أنت لا أحد»، أيضاً إذن نحن اثنان لا أحد.‏ لا تخبر أحداً سيطردوننا، كما تعلم.‏ يا للكآبة، أن تكون شخصاً ما،‏ كم هو مبتذل - مثل ضفدع، أن تجهر باسمك طوال شهر حزيران. وسط مستنقع يرحّب بك‏. تختار الروح رفقتها الخاصة‏، ثم تبادر بإغلاق الباب، وأمام جلالها المقدس‏، لا يقترب آخرون، بدون تأثر ترقّب مرور العربات، أمام بوابتها البسيطة؛‏ بدون رعشة ترقب امبراطوراً يركع‏، فوق حصيرها. قد عرفتُها من بين حشدٍ وفيرٍ‏، وقد اختارت واحداً، ثم أغلقت مصاريع وجودها‏ مثل الحجر.

لقد أثرتها الوحدة وأغنتها عن تقحّم الشبهات الشهواتيّة الماديّة، وأضفت على تكوينها غموضَ المجهول، والذي دفع بالكثيرين من النقّاد إلى استكشافها، وكانت تلوذ بالفرار إلى نفسها، تمنّيها بصديقٍ يتفهّم ما تكتم من وشمة الحقيقة، ولكنّ غيابها عن المجتمع، وقلّة مغادرتها الاراديّة لمنزلها الذي لم تبرحه إلّا لمرّاتٍ قليلة ونادرة، جعلها تعزفُ عن هذا التمنّي وتسبحُ في ملكوتها الخاص والكئيب.

في قصيدة أخرى تقول: «أقدام جديدة، داخل حديقتي تمرُّ‏، أصابع جديدة تحرك سطح التربة.‏ شاعر متجول فوق شجر الدردار.‏ يهتك أسرار العزلة.‏ أطفال جدد يلعبون فوق المساحات الخضراء-‏ أطفال جدد متعبون ينامون في الأسفل،‏ وما يزال الربيع الكئيب يرجع،‏ وما يزال الثلج المحافظ على مواعيده يعود».‏

ديكنسون شاعرةٌ حالمة، خلعت لُجُمُ خيلها حين اختارت التأهّب والانطلاقَ في عالم الذاتي، وتمرّغت في الفلسفة الانعزاليّة الذي اتّبعها الفيلسوف شوبنهاور، ورغم اخفاقها في بناء تواصلٍ مع العالم الخارجي، إلا أنّها بذلت ابداعها في مهد الأدب والشعر، متلفّعةً بطمأنينة الشاعريّة المنكسرة، وقد عرفها العالم واشتهرت بعد رحيلها ولم تنل حقّها في الانتشار خلال حياتها، غير أنّ كتبها شقّت سبيلها في سماء الشهرة، وقد عاشت ورحلت وحيدة، دون أن تنسى بأنّ رفيقها كان القمر الذي رأت من بلّور غطائه الفضّي اللامع ما لا تراه أعين الناس الاّ من خلال أبصار الشعراء.

QOSHE - ايملي ديكنسون شاعرة الوحدة التي اغترَّها الشعر - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

ايملي ديكنسون شاعرة الوحدة التي اغترَّها الشعر

6 0
04.01.2024

يعيش الكثير من المبدعين في عزلةٍ تميل الى التقوقع الذاتي، والانعكاف الكلّي عن محيطهم العابق بأنفاس البهرجة الانفعاليّة، حتّى يأمنوا لعالمهم الخاص الذي يمدّدون فوق رخام سكينته آمالهم وأحلامهم ويأسهم وبؤسهم الذي قد يجهلون مصدره، لأنّ مشاعرهم المتضاربة تتعرّض للانتكاسات العابرة دونما سبب معيّن.

وقد كانت الشاعرة الأميركية ايملي ديكنسون، ومنذ غضاضة الغضن، تميل للألفاظ المردّدة للوحدة، والمعنى المكرّر الذي يدور حولها، وكأنّ العزلةَ قد عصفت بها عصفها فتآكلت أحاسيسها وتجسّدت من خلال قصائد حزينة في أغباش الوحشة النفسيّة التي تهصرُ روحها وتشهق بدلالات السكون المطبق الذي يحرّرها من التواصل الغيري ويأسرها في التوحّد النفسي المشدّد الذي يعقد حول قلبها طوقه مثل شرنقةٍ تزهقُ وقتها ولكنّها توسّع مداركَها ومجاهلَ مكامنها.

وقد ساعدتها هذه........

© الجمهورية


Get it on Google Play