تتعانقُ المفردات في تنهيدٍ حارق، يشبه اصطكاكَ الأبدان من القرّ الجارف، حين تلامِس تخوم النجوم في عالم برنار مازو وتُحدث جلبة نائية يصل صداها الى تلابيب الشعر المنعكس على صفحة القلق.

هذا الشاعر الفرنسي الأصل، يتلقّف مواردَ الكلمات في سلسبيل لامع رقراق، لينجرفَ فيه مثل قاربٍ حزين يبحثُ عن لازورد البهجة في قرميدٍ من الألوان الصارخة المتدلّية من السماء نحو المياه، ليملأ الدنيا بصراخٍ حيّ مكتوم، ينهالُ بقبلات الحلم على جسد المعنى.

وقد برز شعر برنار مازو في تقصّي الميتافيزيقيا الحيّة التي تسبر جنونَ المجاز، وتتجاوز عتبةَ النور حيث يتلاطم الموج في تكتّل دائريّ صاخِب يهول أسرار الكون الهائلة ثمّ يختصرها بأسلوبٍ نادر ويحسم آفاقها المتشعّبة بمواقفه الحاسمة.

في قصيدته «لغز العالم المتناهي» يقول مازو:

في ثنايا القصيدة السرية حيث يرقد المعتم، يترنّح الصوت فجأة ويصمت/ لم أعد أملك كلمات، لأُسائل العالم، وفي الضوء الصافي للصفحة، عبثاً أحاول تسمية الأشياء. لا شيء من الآن فصاعداً، لنشير إليه لنصفه، سوى لغز العالم اللانهائي انعطافه البائس، وكل هذه الكلمات التي كانت تغني على شفتي، لن تصير قريباً سوى رماد متناثر في الريح».

هذا التكثيف الضبابي للمفردات التي تجتلب معها تناقضات جمّة من خلال استخدام الضوء والعتمة كركنين بارزين لإماطة اللثام عن المرمى والمغزى وترنّحه المستجدي بين اليأس والأمل، يبرز تخبّطه العشوائي بين الحُلم والغضب، فالطبيعة المُعشَوشبة في داخله تجنح للموت حين يرشقها بحجارة الكآبة، ثمّ تزهر وتحيا مع ريق الندى الذي تبلّل به السعادةُ روحَه. ثمّ يغيّر المسار فجأة وينشد شعراً شاكياً بملامح حزينة فيقول:

والريح، الريح تمحو قريباً آثارنا، وجرحَ الشمس وغبار الأيام. وما عسانا نقول عندما يكون كل شيء قد قيل؟ يبقى الصمت لكي نعزّزه/ أيتها الطيور التي ترافقني إلى أبعد التخوم، خَفّفي تعبي، كفكفي دموعي، فلتكن حياتي أخف!

إنّها كثافةٌ معنويّة خارقة، تشقُّ مفاتيح الغيب وتغدو قفلاً حديديّاً صلباً يفتحُ الأبوابَ على التاريخ الطويل للشعر. وهذا التصلّب الخفيف الذي يبرز من حنايا بعض الكلمات، ينمُّ عن صراع متولّد من منازعة الهموم المكبوتة والتي كشّرت عن مفاهيم التحدّي والتربّص التي تكنّها روح الشاعر.

هو دوماً في حالة انبهار، هذا الانبهار الكبير الذي جعله يستكشف عوالم شعراء كبار سبقوه أمثال رامبو وبول فيرلين وجيرار دي نرفال، ويجهر بقوّة بدهشته بكتابات بودلير ورومانسيّاته الحالمة.

وقد ترجم صوته الداخلي إلى قصائد عديدة، يرافقه طير الوحي الذي لم يتخلَّ عنه، وقد قال في هذا الوصف: أيتها الطيور التي ترافقني، إلى أبعد التخوم، خفّفي تعبي، كفكفي دموعي فلتكن حياتي أخف! كما لو أنّ ألوف الكلمات ترنّ عبري، منذ ليل الأزمان، لتغنّي جمال العالم الهَش.

تأثّر مازو بالشاعر رونيه شار، وأشار إليه بأنّه استطاع أن يستعيدَ تاريخ القيثارة الناجمة عن استرضاء القصيدة، وتناغم تشكيلها، وقد تتابعت معزوفته لتصبَّ أخيراً في البحر، ويجد قاربه ملاذَ النجاة إلى شواطئ الجرح الشعريّ الآثم فيقول: العصافير التي تمضي فوق سطح البحر، تحلم بالشواطئ البعيدة حيث يأخذها الموت.

QOSHE - برنار مازو شاعرٌ لقيثارة الدهشة - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

برنار مازو شاعرٌ لقيثارة الدهشة

8 0
05.01.2024

تتعانقُ المفردات في تنهيدٍ حارق، يشبه اصطكاكَ الأبدان من القرّ الجارف، حين تلامِس تخوم النجوم في عالم برنار مازو وتُحدث جلبة نائية يصل صداها الى تلابيب الشعر المنعكس على صفحة القلق.

هذا الشاعر الفرنسي الأصل، يتلقّف مواردَ الكلمات في سلسبيل لامع رقراق، لينجرفَ فيه مثل قاربٍ حزين يبحثُ عن لازورد البهجة في قرميدٍ من الألوان الصارخة المتدلّية من السماء نحو المياه، ليملأ الدنيا بصراخٍ حيّ مكتوم، ينهالُ بقبلات الحلم على جسد المعنى.

وقد برز شعر برنار مازو في تقصّي الميتافيزيقيا الحيّة التي تسبر جنونَ المجاز، وتتجاوز عتبةَ النور حيث يتلاطم الموج في تكتّل دائريّ صاخِب يهول أسرار الكون الهائلة ثمّ يختصرها بأسلوبٍ نادر ويحسم آفاقها المتشعّبة بمواقفه الحاسمة.

........

© الجمهورية


Get it on Google Play