إنّ التلاؤمَ الغيبيّ بين إيديولوجيّة المنطق وميتافيزيقيّة الخيال، دفعَ بالكاتب اليمني مروان الغفوري في روايته «جدائل صعدة» لتسويف مراميه وتوظيف مآربه في توفير مناخ متناغم للقارئ من خلال التنقّل به من عالم المجاز الى الواقع المنحاز للهاث سرده المتتابع.

هذه الاستراتيجيّة غير المتجانسة تبدو مطابقة لحيثيّات هذا الزمن الذي يقرع نواقيس ابتهاجه على دفوف التغيّرات النفسيّة التي تصيب الانسان من غير مقدّمات أو محسّنات نفسيّة.

واللعب خارج المألوف يبدو مغلوباً على أمره في هيمنة الغفوري على كافّة الأقطاب المكمّلة للمشهد الكامل، سواء من خلال استخدامه لعناصر الطبيعة ومفرداتها واجتياز مواسمها وتنشّق مبخرة بهائها في قرية من محافظة صعدة، حيث يتراسل الكاتب من خلال الفيسبوك مع فتاة تسمّي نفسها إيمان، تخبره قصّتها على شكل رسائل متبادلة بينهما، فتشكّل حكاية مأساويّة إلى حدّ ما، تبدأ بعبارات الحنين والشغف وتنتهي بخامة الوداع والأسف.

عاشت إيمان مع أبيها وأمّها وشقيقها حسن وشقيقتها عبير في منزل يقع على رأس الجبل، كان والدها رجلاً مرموقاً بين أبناء جيله، وقد شارك شقيقها في حروبٍ متتاليةٍ بأمرٍ من سيّد القبيلة الهاشمي الذي يروّج نسبه للناس على قدرته في علاج المرضى، لهذا يعيش أهل القرية بعيداً عن الأماكن والقرى التي يسهل فيها وجود طبيب، لأنّ الجهل السائد يوعز لهم بأنّ الطبّ الروحاني قادرٌ على محو العلم وزعزعة كيانه.

تعيش إيمان في محيطٍ منغلق يعبُّ ملامحه من شبابيك الانتظار المرّ للعائدين من الحرب، ويسنّ اقتناعاته من مبدأ التفوّق العرقي والطبقي والقناعة بهذا التدرّج اللامنطقي ببن القويّ والضعيف، وعدم التشبّث بأهميّة العلم، وتهميش المرأة واعتبارها أداة ترفيه ومتعة وجارية تؤمَر ولا صوت لها حتى الموت. تنهاها أمّها عن الاختلاط بالعجوز اليهودية شمعة التي تعيش في قرية آل سالم اليهوديّة، حتى تكون معاذةً من بلائها والدسار التي تهتك أسرارها.

يموت والدها بنوبة قلبيّة ولا يستطيع السيّد الهاشمي إنقاذه من حتفه المؤلم، وإرجاعه من الزوال الذي يحكم قبضته على قريتها المقفرة من الطب والمستشفيات، أمّا صديقاتها فيتبرّأن منها، ويزداد الهمس حولها ويتّهمها أهل قريتها بأنّها أتت الفاحشة مع مدرّسها القديم الذي عاد من السعوديّة، بتلميحٍ وغمزٍ غير مباشر من السيّد الهاشمي عنها، بعد أن تنتفخ بطنها بسبب مرضٍ يلمّ بها، فينهش الشكّ صدر أمّها ولكنّ شقيقها حسن يؤمن بكلامها ويثق بها، فيأخذها برفقة شقيق السيّد إلى صنعاء للعلاج وكأنها تحمل صليبها الذي اندحر في هوّة السقوط الوهميّ لخطيئتها التي لم ترتكبها، وتقيم في منزل سيّدة هاشميّة عجوز، ويكتشف الأطبّاء وجود ورمٍ حميد في المبيض يقومون باستئصاله. ولكنّ الشائعة تسري في القرية بأنّها وضعت جنيناً مَيتاً بعد عودة شقيق السيّد إلى القرية.

يغيب حسن عن حياتها بعد اشتراكه في حربٍ أخرى بضغطٍ من السيّد الهاشمي ويوارى الثرى في قريتها التي لم تطأها منذ غادرَتها، كأنّ الإجحاف المسلّط على رقبتها لم يزاولها منذ تدلّت الألسن لتصفعها بإثمها الذي لم ترتكبه إلى درجةٍ جعلتها تتخيّله مُرغمة وتصدّقه مستسلمة.

تنتهي الرسائل بعد أن تنهي إيمان قصّتها وتعترف للكاتب بأنّ اسمها الحقيقيّ هو زينب، وتخبره بأنّها ستغلق صفحة الفيسبوك إلى الأبد وستقوم بمتابعته تحت اسمٍ وهميّ، وتترك مساحة للذكرى الجميلة التي جمعت بين قلبَيهما لتتوهّج ويغمرها الزمن بالعطف الذي حسره طويلاً عن حياتها.

مروان الغفوري يجهر بمقته للحرب التي تحتكر الأرواح وتفتح السبلَ للعنف والتدمير نابذاً فكرة العنصريّة والكبت، وشبح الجهل الذي أصلدته عقول الناس، فاستبدل الأمل بالوجل، والأضداد المتباينة التي يحفل بها محيطه، فثار كي يهديهم من الضلالة من خلال روايةٍ قد تفلح حيث عجز الكثير من العارفين.

QOSHE - «جدائل صعدة» صرخةُ تثبت سواري اليقين - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

«جدائل صعدة» صرخةُ تثبت سواري اليقين

5 0
13.01.2024

إنّ التلاؤمَ الغيبيّ بين إيديولوجيّة المنطق وميتافيزيقيّة الخيال، دفعَ بالكاتب اليمني مروان الغفوري في روايته «جدائل صعدة» لتسويف مراميه وتوظيف مآربه في توفير مناخ متناغم للقارئ من خلال التنقّل به من عالم المجاز الى الواقع المنحاز للهاث سرده المتتابع.

هذه الاستراتيجيّة غير المتجانسة تبدو مطابقة لحيثيّات هذا الزمن الذي يقرع نواقيس ابتهاجه على دفوف التغيّرات النفسيّة التي تصيب الانسان من غير مقدّمات أو محسّنات نفسيّة.

واللعب خارج المألوف يبدو مغلوباً على أمره في هيمنة الغفوري على كافّة الأقطاب المكمّلة للمشهد الكامل، سواء من خلال استخدامه لعناصر الطبيعة ومفرداتها واجتياز مواسمها وتنشّق مبخرة بهائها في قرية من محافظة صعدة، حيث يتراسل الكاتب من خلال الفيسبوك مع فتاة تسمّي نفسها إيمان، تخبره قصّتها على شكل رسائل متبادلة بينهما، فتشكّل حكاية مأساويّة إلى حدّ ما، تبدأ بعبارات الحنين........

© الجمهورية


Get it on Google Play