لعلَّ أصعبَ المهالكِ وأشقّها وقعاً على قلبِ الشاعرِ، شعوره بعدم الانتماء إلى بيئته البيولوجيّة، واضطراره لحبسِ أنفاسه والتفافه حول هجرةٍ مقيتة يرتحل بها عن ألمه ويستغني عن إلحاحِه المستمر في تطويبِ هذا الشعور. فالعودةُ حلمٌ والهجرةُ مرٌّ لا بدّ منه والقصائدُ مئذنةُ التزهّد في عالمٍ بعيد القرار يشبه أقطاب الكرة الأرضيّة.

نشأت الشاعرة إيدا فيتالي التي ولدت عام 1923 في وطنها الأوروغواي، تحاول أن تخمدَ أعتى نيران الفتنة فيها بقلمها، لتتركَ محاولاتها شقوقاً غائرةً وجافّة في ذاكرتها، فقد حدث انقلابٌ عسكري عام 1974، هاجرت على إثره إلى المكسيك، وراحت والغضب يغمر شرايينها تطالبُ بالحريّة في منفاها، رافضةً الاستكانةَ والضعف، والغرقَ في ضباب الغربة، وقد حاولت العودة إلى موطنها ولم تستطع أن تقيمَ فيه طويلاً، فأصبحت كالبلبل المغرّد خارج أسوار مملكته، يعتريه الوجوم ويشهق بنحيبٍ لبداية وداعٍ طويل، يحوّل الحزنَ إلى مشهدٍ شبحيّ غائم.

في قصيدة «الفراشة» كتبت: «في منتصف الفضاءِ كانت القصيدة رقيقة، غامضة،/ وغامضٌ كذلك كان وصول الفراشة الليلية/ لا هي فاتنة ولا منذرة بسوء/ ضائعة بين صفحات الأوراق المطوية/ وتبدّدَ معها/ شريطُ الكلمات المحلول المهلهل/ هل سيرجع أي منهما يوماً؟/ ربما أحياناً خلال الليل/ حين لا أعود راغباً في كتابة/ أي شيء منذر بالسوء/ أكثر مما تنذر فراشة مختبئة/ تفادياً للضوء/ كما تفعل كلّ الأفراح». وكأنّ فيتالي تعبّر عن ضيقها بمساحات التغرّب عبر التفرّد في التعبير المجازي، لهذه الرحلة الانطوائيّة في السفر من دون ضوء يحطّم الليل الطويل الذي تتدحرج تحته الكائنات مثل قصيدة تنزف حروفاً من شوقٍ وألم. والفراشةُ في نظر فيتالي أشبه بالحريّة العمياء التي لم ترَ النور تحت مجهر الحق ولم تلملم مساعيها غير الويلات، ولكنّها تسعى له بشرايين تنبض بالرغبة الجامحة.

هذا الاتّصال الروحي بين الكاتبة وبلادها يشبه الثلوج المنداحة والجليدَ المتسمّرَ على مرأى العيون. وكأنّ الريحَ تفصل بينهما وقد عاندت قدرها واستمرّت تكتب بإيحاءات العودة وهمس الديموقراطيّة التي حلمت بها وعاندتها في آنٍ واحد.

في قصيدة لها ترجمها عبده حقي تقول: «إذا كانت قصيدة هذا المساء، معدنية .. حجرة تسقط نحو المغناطيس في مرفأ للسلام عميق جداً، إذا كانت فاكهة ضرورية، لتهدئة جوع شخص ما، وفي الوقت المناسب، الجوع والقصيدة ينضجان».

هذه الترنيمات الحالمة تزخر بأعباء الرحلة التي خاضتها بلا أسف، وزادت فيها رغبة العودة الى الوطن.

فيتالي شاعرة ملهمة لعبت دوراً في الحركة النسويّة الشعربّة على مرّ الزمان دون أن تطرف عينها عن حقّ وطنها بحريّة شاملة لا تفرّق بين آمر ومأمور.

QOSHE - ايدا فيتالي المتّكئة على وسائد الغربة والهجر - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

ايدا فيتالي المتّكئة على وسائد الغربة والهجر

3 0
15.01.2024

لعلَّ أصعبَ المهالكِ وأشقّها وقعاً على قلبِ الشاعرِ، شعوره بعدم الانتماء إلى بيئته البيولوجيّة، واضطراره لحبسِ أنفاسه والتفافه حول هجرةٍ مقيتة يرتحل بها عن ألمه ويستغني عن إلحاحِه المستمر في تطويبِ هذا الشعور. فالعودةُ حلمٌ والهجرةُ مرٌّ لا بدّ منه والقصائدُ مئذنةُ التزهّد في عالمٍ بعيد القرار يشبه أقطاب الكرة الأرضيّة.

نشأت الشاعرة إيدا فيتالي التي ولدت عام 1923 في وطنها الأوروغواي، تحاول أن تخمدَ أعتى نيران الفتنة فيها بقلمها، لتتركَ محاولاتها شقوقاً غائرةً وجافّة في ذاكرتها، فقد حدث انقلابٌ عسكري عام 1974، هاجرت على إثره إلى المكسيك، وراحت والغضب........

© الجمهورية


Get it on Google Play