عندما يجهش الشاعرُ بغصصٍ دفينة، تتقمّصها أعماقه وتزهر من خلالها في أدواحٍ من الحنين واللهفة والتمرّد على نفسه، ثمّ يلفحُ قافلة كلماته بهواءٍ رمليّ يحرقُ المحاجرَ ويجفُّ الحناجر، يكون قد بلغَ أعلى قمّةٍ للحزن والانكسار، فيغدو قليلَ التكيّف مع محيطه، ونادرَ التريّث في توجّهاته الخياليّة الحالمة. عندئذ، يَعلم ما لا يُعلم، ويحلم بالمحال، فيقتبس المجاز ويستنبط الملاذ من بين جدران همومه وتفكّره المضني الشديد.

وقد جسّدت الشاعرة الفرنسيّة لور بينو دورَ الزهرة الملتاعة بين أشواك الشتاء، والتي تستيقظ من غفوتها لتصطدم يقظتها بجوّ الرحيل الشاحب، حين يغادر جميع من يتنفّس على وجه هذا الكون، وتبقى وحدها في مقارعة آفاق عزلتها، ومغازلة حروفها المتهدّلة مع هبوب العاصفة، ومعاكسة أقدارها والخوض في معركةٍ متساوية القوّة معها.
في قصيدتها «لقد رأيتها»، كتبت بينو: «لقد رأيتها، هذه المرّة لقد رأيتها، أين؟ على حافة الفجر والليل، فجر الحديقة، وليل غرفة النوم، بابتسامةٍ تكسرُ صبر الملائكة، تنتظرُني أعرف ذلك جيّدا، ثمّ بصوتٍ بعيد قالت لي، آه.. لا لن تصبحي مجنونة، هل تسمعين، ستفعلينَ كذا وكذا». كَانت تَتحَدثُ وتَتَحَدّثُ من دُون أن أفهَمَ شَيئاً. تَبِعتُهَا رُغماً عَنِّي في حَفِيفِ فُستَانٍ كَثِيفٍ وطويلٍ بِطَبَقاتِ حَرِيرٍ تَتَقَافَزُ وتتَنَثَرُ فِي كُلِّ خطوة. اختفت. برّاقة صاخبة. عبر سلّمٍ ضيّقٍ مهترئ».
هنالك تصاعدٌ حِلزونيّ تتبع مجاهله بينو، فتظهر بين طيّات القصيدة لتختفي فجأة، ثمّ تتابعُ الصعودَ التدريجيّ وتدور في فلك نفسها لتعثرَ على ذاتها المحطّمة بين مآخذ الليل ومراقد الخيال، فتقفز على هواها من دون أن تخلّ بتناسق القصيدة، تنتشلُ من قاع الغيب مرآتها التي تناغيها وتراوغها كي تنضمّ إلى جسدها الخاوي، وروحها الجافّة إلّا من هواء الشعر.
والانزلاق الروحيّ في تفتيت المعاني وإعادة ترميمها يتّضح في أسلوب الغموض الذي يحجب مشاعرَ بينو جزئيّاً، فلا تظهر بوضوح إلا من خلال توصيفها الذي يتضمّن حواسّها جميعها، فتسمع صوت حفيف الفستان، وترى بعينيها «صورتها الأخرى»، وتهرع بقدميها مهرولةً كي تلحقَ بها.
في قصيدة أخرى بعنوان «من أين جئتِ؟» كتبت فينو: «من أين جئتِ؟ بقلبكِ الممزّقِ بين أشواك الطرقات، بخُشُونَة يَدَيكَ التِي تَعوَّدَت كَسرَ الصُّـخُورِ، ورَأسكَ المُنتَفِخ كشوكةٍ مَثقُوبَة؟. نَحنُ أولئك الذِينَ نَصرُخُ في الصَّحَارِي، ونصيحُ بالقمر. أَشعُرُ بِالأَمرِ تَمَاماً الآن لَقَد أَعطَونِي واجِباتِي” لكِن مَا هِيَ تَحدِيداً؟
تستخدم فينو في مطلع هذه القصيدة دلالات اسنتنكاريّة واضحة، وتلمّح لاحتجاجٍ انسانيّ لا يتطابق مع كلّ هذا الحزن الذي تعيشه في مجتمعها. فالطرقات المقفرة والملغومة بالشوك والجماد الذي لا يُكسر تقلبُ ثورتها معادلته الثابتة فتهشّمه وتهمّش المستحيل، ويبقى القمر دليلاً على الأمل الذي لا يُستباح زمامه، حتّى يبدّد كلّ العوامل الخارجيّة القاهرة، ويعيد إليها ثقتها المفرطة بقلمها وجموح خيالها، وتنتظر هذا الآخر أو السوبرمان في فلسفة نيتشه ليَقيها كلّ هذا السحر الأسود المتطاير.
لور بينو لم تنل بركة الشعراء الخالدين الذين حثّوا خيالهم على تهيئة مواقد الكلمات لتدفئ القلوبَ الباردة، وتطفئَ شموعَ رهبتهم بلهفة المغزى، ولكنّها بلّغت عبر سطور قصائدها رسالة أنثى تحدج عيون الليل برقّتها، وتهيم مثل فراشة حول مصباح الشعر، تخاف أن تقترب منه فيلسعها بوهجه، فتبقى على بعد خطوات غير بعيدةٍ عنه، تعكس ظلَّ جناحيها في لهيبه الجميل، وترسل شرارات أحزانها من خلاله، وتترك مخيّلتها على سجيّتها تتحرّك وتسكن، تحسم وتجادل، تخاطب وتواجه، ولكنّها تجثو وتنحني لصلاة الطبيعة الخالدة.

QOSHE - لور بينو فراشة تصلى شوقاً حول قنديل الشعر - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

لور بينو فراشة تصلى شوقاً حول قنديل الشعر

4 0
27.01.2024

عندما يجهش الشاعرُ بغصصٍ دفينة، تتقمّصها أعماقه وتزهر من خلالها في أدواحٍ من الحنين واللهفة والتمرّد على نفسه، ثمّ يلفحُ قافلة كلماته بهواءٍ رمليّ يحرقُ المحاجرَ ويجفُّ الحناجر، يكون قد بلغَ أعلى قمّةٍ للحزن والانكسار، فيغدو قليلَ التكيّف مع محيطه، ونادرَ التريّث في توجّهاته الخياليّة الحالمة. عندئذ، يَعلم ما لا يُعلم، ويحلم بالمحال، فيقتبس المجاز ويستنبط الملاذ من بين جدران همومه وتفكّره المضني الشديد.

وقد جسّدت الشاعرة الفرنسيّة لور بينو دورَ الزهرة الملتاعة بين أشواك الشتاء، والتي تستيقظ من غفوتها لتصطدم يقظتها بجوّ الرحيل الشاحب، حين يغادر جميع من يتنفّس على وجه هذا الكون، وتبقى وحدها في مقارعة آفاق عزلتها، ومغازلة حروفها المتهدّلة مع هبوب العاصفة، ومعاكسة أقدارها والخوض في معركةٍ متساوية القوّة معها.
في قصيدتها «لقد رأيتها»، كتبت بينو: «لقد........

© الجمهورية


Get it on Google Play