يُجنّد الشاعر الانكليزي جورج غوردون بايرون طاقاته الانفتاحيّة على العالم بأكمله وعبر الأزمنة المتتالية، عن طريق نحت تمثال المذهب البايروني الشعري، الذي جذب إليه كبار شعراء وأدباء عصره، أمثال دوستويفسكي وفيكتور هوغو، كما دَلّل فلوبير على عبقريته من خلال طرح اسمه في مجموعته القصصيّة كمثالٍ للتغيير والتقدير والتصوير الانساني القيّم.

عاش بايرون في أوائل القرن التاسع عشر حيث اشتهر بعصر الرومانسيّة، وتجرّد من عمامة القيود التي شعر بأنّها قد تأسره وتردع دوافق إلهامه، ومن أهمّها الدين والمجتمع، وعشق الشرق كملهمٍ أساسيّ لنوازعه الشعرية وكبائر انهزاماته الوجدانيّة إزاء السياسة والنفاق الدائر حولها.
عُرف عن بايرون تحمّسه الشديد لنابليون، ومؤازرته له، وقد كان يعشق الملاحمَ البطولية، ويتقصّى ملامحَ تجلّيها وتحلّيها بالشرف والفضيلة المتكاملة، وقد وجد في الحركة «الفلهينيّة» (وهي حركة تروّج لحقّ الشعب اليوناني في نيل انعتاقه من شرنقة الاحتلال العثماني، وقد انتشرت في عهد بايرون واعتنقها العديد من مثقّفي ذاك الزمن) قبضةً فولاذيّة تهشّم انكماشاته على ذاته، وتدفعه ليكونَ من أبرز روّادها.
كان بايرون شاعراً عاطفيّاً، تهزّه اختلاجات الورد المتصبّب عطراً، وتقضّ مضجعَه حكايا البؤس والشقاء التي لم يمتحنها لأنّه كان ينتمي إلى طبقة النبلاء، ويعيش بيسرٍ منتقداً تملّق طبقته المترفة وترفّعها عن الطبقة الفقيرة التي تعاني مغبّة العوز الدائم.
في قصيدة «ثمة متعة في الغابات»، كتب بايرون: «ثمّة متعة في الغابات لم يُعرف لها طريق، ثمّة فتنة على الشاطئ المهجور، ثمّة مجتمع لم يعكّر صفوه أحد عند البحر العميق، وثمّة موسيقى في هدير أمواجه، لا أقول إنّ حبّي للإنسان قليل لكنّ حبّي للطبيعة أكبر، في خلواتي هذه التي أسترقها من كلّ ما يمكن أن أكونه، ومن كلّ ما كنته من قبل، كيما أتّحد بهذا الوجود، فأشعر بما لا أستطيع التعبيرَ عنه، وإن كنت لا أقوى على إخفائه كلّه».
إنّ حبَّ بايرون للطبيعة الخلّابة قد فاق كلّ تصوّرٍ وتوقّع، فهو في هذه القصيدة يؤدي دورَ الباسل العاشق، الذي تكرمشت عضلات صبره ثمّ انبسطت أساريرُ تعابيره للهواء الطليق والكمنجة التي يعزف عليها زبد الأمواج السائل مثل لعاب الخيل ألحانه المتصاعدة، والغابات المتوارية وراء الحرث المتعطّش لحواةِ الكلمات، وكأنّه يسكّن روعه المصطخب بالتناقضات في غفوة الطبيعة وصحوتها، ويُجمّد ذاكرته على مشاهدَ انطباعية، تكرّس فتنتَها للناظر من دون حجابٍ يُسدل.
في قصيدة تسيرُ في بهاء، كتب بايرون: «تتمشّى بجمالٍ مثل ليلٍ، هادئٍ، صاحٍ، مُضاء بالنجوم، روعةُ الظلمةِ والنورِ تراها، في سوادِ العيون، في وجهِ الضياء. ولهذا أينعَ الضوءُ الرؤوم، والذي تحرِمنا منه السماء. إنّ ظلّاً قد يحلُّ، أو شعاعاً قد يقلُّ، لن يمسّا ذلك الحسنَ الذي ليس يُسمّى. فتراهُ، موجةً سوداءَ في كلّ ضفيرة، أو ضياءً ساكناً وجهَ الأميرة، حيثما الأفكارُ تحكي بصفاء، إنّها تسكنُ وجهاً من ضياء».
يطغى لون المديح المبهرج بغزلٍ مُتوارٍ في قصيد بايرون، فيجمع بين الضوء والظلّ أو النهار المنصرم والمساء، حيث يتبارى اللون الذهبيّ مع الرماديّ فينغرس وجه الحبيبة في عمق النور المتوهّج بأساور السماء البرّاقة الحالمة أي نجومها، وتحتدم أحاسيسه في وصفٍ مثاليّ يميل للريادة في الثناء، ويقترب من العبادة في رسم المعشوق، منحازاً لكلّ انبهارٍ واحتكارٍ في الهوى.
شكّل بايرون في عدوه المجنّح في آفاق الشعر حالةً فريدة، يحدوها مرام التعميم الانساني، وكان يشعر بأنّ الوقتَ ندّه، ويصارع الزمن ليعبّرَ عن عواطفه وحزنه الانساني الذي كان مليئاً ونزقاً، وقد تمرّغ في مرابع العاطفة والخيال وخلّف وراءه إرثاً أدبيّاً ضخماً سبق أوانَه وزمانَه ومكانَه.

QOSHE - بايرون الحاوي للكلمات بحفنةٍ من الطبيعة - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

بايرون الحاوي للكلمات بحفنةٍ من الطبيعة

7 0
05.02.2024

يُجنّد الشاعر الانكليزي جورج غوردون بايرون طاقاته الانفتاحيّة على العالم بأكمله وعبر الأزمنة المتتالية، عن طريق نحت تمثال المذهب البايروني الشعري، الذي جذب إليه كبار شعراء وأدباء عصره، أمثال دوستويفسكي وفيكتور هوغو، كما دَلّل فلوبير على عبقريته من خلال طرح اسمه في مجموعته القصصيّة كمثالٍ للتغيير والتقدير والتصوير الانساني القيّم.

عاش بايرون في أوائل القرن التاسع عشر حيث اشتهر بعصر الرومانسيّة، وتجرّد من عمامة القيود التي شعر بأنّها قد تأسره وتردع دوافق إلهامه، ومن أهمّها الدين والمجتمع، وعشق الشرق كملهمٍ أساسيّ لنوازعه الشعرية وكبائر انهزاماته الوجدانيّة إزاء السياسة والنفاق الدائر حولها.
عُرف عن بايرون تحمّسه الشديد لنابليون، ومؤازرته له، وقد كان يعشق الملاحمَ البطولية، ويتقصّى ملامحَ تجلّيها وتحلّيها بالشرف والفضيلة المتكاملة، وقد وجد في الحركة........

© الجمهورية


Get it on Google Play