في تلك المتاهات الشاسعة التي يرومُ فيها الكاتبُ الانخطافَ الكلّي عن عالمه، قد يبرزُ عاملُ المباغتة الذي يغيّر مسارَه ويشتُّ من تدفّق تيّار أحاسيسه، فينسلخُ جزئيّاً عن واقعه ليحلّقَ بين ثنيات المخيّلة، ولكنّ عقله يظلُّ متابعاً للواقع ومتنصّتاً لوشوشته ومتاعبه. لهذا، فهو يسعى كي يتداخلا معاً (أي الواقع والخيال)، ويخلق عالماً متفرّداً يضمّهما معاً. ومن هنا، يخلق تقنيّة كتابية متماسكة ومتجانسة، ويلحُّ في إظهار البعد النفسي المتجذّر عن التركيبة البشرية.

وحتّى لا يضيق به الزمان، يتخطّى حدودَ مشاعره وينفذ إلى خلايا النفوس الشقيّة والهانئة، ليحلّلَ ويفصّلَ ويمثّلَ كلّ شخصية على حدة، من دون التغاضي عن أيّ جموحٍ إنسانيّ خارق أو مُعاد للطبيعة.

وقد ثمّن بورخيس الخيال، ووصفه بأنّه أعظم ما يمتلكه الإنسان، ولهذا يثبُ خيال الكاتب الذي يتجاوز المسلّمات البديهيّة، ويغوصُ في التكهّنات المجازية ويعبر الأسلاكَ العجائبيّة. وكذلك مَجّد أرسطو، المؤسّس الرئيسي للمدرسة الواقعية، مهمّة الواقع في تحديد السلوك وتهيئته للاندماج في المجتمع والمحيط الذي ينتسب إليه، وقال: «إنّ المريضَ لا يستطيع أن يلبسَ ثوبَ العافية بمجرّد رغبته بذلك».

وقد وُصف الكاتب الروسي الساخر غوغول بأنّه رائد ومؤسّس المدرسة الواقعية النقدية، حتّى ذهب بوشكين في مديحه فقال: «لم تظهر بعد تلك الموهبة التي تستطيع الكشفَ عن دناءات الحياة مثلما يقدر عليه غوغول».

لكنّ غوغول لم يضع حاجزاً منيعاً يحول بينه وبين إطلاق العنان لخياله الذي نسج قصّة «الأنف»، بل بالعكس، فقد عبر إلى خيال القرّاء بمشاهد ساخرة وناطقة بالنقد اللاذع للمجتمع المخملي الأرستقراطي الذي يستغرق وقته في الأمور الهامشيّة، بينما تلحُّ أحلامٌ بسيطة على أفكار البسطاء الأشقياء الذين نذروا أنفسهم للاستقامة والحكمة والعدل، ولم ينبْهم غير الاحباط والانكسار المعنوي.

كذلك تربّص دوستويفسكي لمزايا النفوس العقيمة التي تحيا على بذور الفقر أو الشر والرذيلة، وغاص في التحليل النفسي المباشر لأبطال رواياته وقصصه، ورَجَم بقلمه سدودَ المجتمع التي يضعها حاجزاً بينها وبين الديمقراطيّة، وعَزا الجرائمَ إلى الفقر المُدقع الذي يفتح شدقيه كالطاحون يتلقّف الرزايا والمنايا، وقد أدى الخيال دوراً يشبه اللاوعي في الدراسة السيكولوجيّة لتقديم الدافع أو العقدة التي تنشأ في سياق الرواية وتدفع البطل الشاب اليافِع في رواية «الجريمة والعقاب» لتنفيذ جريمته، ومن ثمّ للتواري في أعماق ذاته ذعراً وندماً وأسفاً على ما آل إليه مصيره.

وكذلك عالجَ فلوبير مطبّات التحوّل الفجائي في الطبيعة البشرية، فكان نافداً وحازماً في رسم مصير مدام بوفاري، وجافّاً وصريحاً في تقرير نهاية حكاياته في مجموعته القصصية «نصوص الصبا»، وعادلاً وخاشعاً في «التربية العاطفية»، لأنّ الحقيقةَ والخيال تنازعا على جذبه، فتشكّلت مشاعره بطريقة متنوّعة ومختلفة. ومثله فعلَ فيكتور هوغو من خلال روايته «البؤساء» التي جهرت بخفايا العِلل الدفينة في عصره.

إنّ الواقعَ والخيالَ يشبهان أعضاء الجسد التي لا تستطيع أن تنفردَ بعملها، بل تقوم بدورتها الدمويّة الكاملة مُستعينةً ببعضها البعض، والتجاوز في عمل أحدها يعني الخطر أو الشلل للعضو الآخر، والفلسفة هي لبّ الجسد الأدبي المتكامل، تصفّق وتهلّل للتحليل الصائب وتقيّم الأرواحَ البشريّة على أسس علميّة ومنطقية، لأنّ علّة الأنسان منذ قديم الزمن التأثّر الايديولوجي والنفسي بكلّ المؤثّرات الداخلية ثمّ الخارجية التي يتعرّض لها في حياته.

QOSHE - الخيال والواقع جسد معنويّ متكامل - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

الخيال والواقع جسد معنويّ متكامل

5 0
07.02.2024

في تلك المتاهات الشاسعة التي يرومُ فيها الكاتبُ الانخطافَ الكلّي عن عالمه، قد يبرزُ عاملُ المباغتة الذي يغيّر مسارَه ويشتُّ من تدفّق تيّار أحاسيسه، فينسلخُ جزئيّاً عن واقعه ليحلّقَ بين ثنيات المخيّلة، ولكنّ عقله يظلُّ متابعاً للواقع ومتنصّتاً لوشوشته ومتاعبه. لهذا، فهو يسعى كي يتداخلا معاً (أي الواقع والخيال)، ويخلق عالماً متفرّداً يضمّهما معاً. ومن هنا، يخلق تقنيّة كتابية متماسكة ومتجانسة، ويلحُّ في إظهار البعد النفسي المتجذّر عن التركيبة البشرية.

وحتّى لا يضيق به الزمان، يتخطّى حدودَ مشاعره وينفذ إلى خلايا النفوس الشقيّة والهانئة، ليحلّلَ ويفصّلَ ويمثّلَ كلّ شخصية على حدة، من دون التغاضي عن أيّ جموحٍ إنسانيّ خارق أو مُعاد للطبيعة.

وقد ثمّن بورخيس الخيال، ووصفه بأنّه أعظم ما يمتلكه الإنسان، ولهذا يثبُ خيال الكاتب الذي........

© الجمهورية


Get it on Google Play