دارت الحياة دورتها المنتظَرة وغير المنتظَرة التي تكشف وتخفي على كيفها، ونظَر عبد الغني طليس خلفَه ليُلقي تحية على شُعراء أحَبّهم، وهُم بمقدار وجودهم خلفه، موجودون أمامه «يُلقون» قصائدهم ولو راحلين ويترصدون صداها.

كتاب طليس هو تَردّداتُ العصفِ الذي تركه شُعراء كبار في حياة العرب العامة وحياة طليس الثقافية الخاصة، ومحاولة لإعادة قراءة وبحثِ ما كتبوه وتركوه للأجيال في مراحل زمنية متفرّقة لكنها (أواسط القرن العشرين) الأسطَع بين سواها، لتشكيل خطوط حكمَت على الشّعر في المنطقة العربية بنهضةٍ غير مسبوقة في تلك الحقبة إلّا ربما بما حفل به العصر العباسي بمراحله الثلاث الأساسية حين أدّى الاختلاط بين الشعوب والترجمات والخبرات مع «الآخرين» الكثُر في ذلك الوقت... إلى اعتبار الشعر العباسي هو الأغنى في المكتبة العربية السابقة واللاحقة شِعراً وترجمة وفلسفة ورياضيات...
هم ثلاثة عشر شاعراً، بينهم الشاعر الفرنسي بودلير في معرض توأمة مع الشاعر العربي أبي نواس في طبيعة حياته وتفاصيلها وكذلك طبيعة شِعره وإيحاءاته. ولعل عناوين البحوث - المقالات كافية لتدلّ على المضمون كاملاً، بمعنى توفيق طليس في اختصار كل مقال - بحث بسطرٍ واحد في العنوان. وعلى رغم من كثرة الأفكار التي يطرحها عن كل شاعر، إلا أنه لا يسمح لأجنحة الشاعر المُتَحَدَّث عنه أن تُبعد طليس عن الموضوع المحدد الذي اختاره. وفي هذا تركيز بالغ تجلّى بوضوح تام في البحث الخاص بالمتنبي كشاعر برع في وصف الكرَم والفروسية ولم يكن كشخص كريماً (بل كان بخيلاً جداً حتى مع عائلته) ولا كان فارساً بمعنى المشاركة في أي قتال، عندما انتبهنا الى أنّ طليس يعود في البحث، بعد كل فكرة من الفكرتين السلبيتين المعروضتين، إلى الإشارة إلى ما لا يقبل جدلاً حول قيمة المتنبي الشعرية، وهي القيمة الأكثر تجلّياً في المكتبة الشعرية العربية، وقد استخدم طليس تعبيراً قرآنياً في تمييز المتنبي بقوله إن شِعره «في أعلى عِلِّيِّين».
وعودة طليس إلى التراث مع ثلاثة شُعراء كبار، مقابل تسع شُعراء معاصرين، كانت أيضاً تفتش عن جديد لا عن استعادة ما أمكَن من القديم. أي أن محبة طليس وإعجابه العالي بالمتنبي لم يمنعاه من «القبض عليه» متلبّساً بالبُخل والجبَانة. وإكبارَه معاناة أبي فراس الحمداني لم يدفعه إلى تكرار ما قالت الدراسات عنه وإنما أضاف إلى الدراسات اكتشافاً خاصاً به لم يتطرّق إليه أحد من قبل، وهو الرومنسية في شِعر أبي فراس.
الرومنسية التي صُنّفَت كمدرسة فنية، في القرن التاسع عشر، وفي الغرب، تبيّن أنّ لها جذعاً عربياً عميقاً في المضمون والشكل الرومنسيّين كنظام عمَل وإنتاج فني، عبر العذاب والأمل والرجاء والتكلّم مع الطبيعة كخلاص حقيقي وبث الشكوى من قلب محروق ونفوس تائهة. وهذا يقال للمرة الأولى، وينبغي أن يدفع الدارسين الأكاديميين إلى الغوص في فكرة اعتماد أبي فراس أول شاعر رومنسي في العالم، واستحضار القصائد والمُتون التي تشهد على ذلك وهي كثيرة لا بل غالبة على كل ما عداها في شِعره !
وفي حين يدقّق طليس في أسباب «قيادة الجنون على كل الجبهات» عند سعيد عقل، و»الوسواس القهري» الذي يسكن في شِعر أدونيس، ويراقب الاهتزاز العنيف الذي عاناه شِعر محمود درويش بسبب خياراته السياسية التي كادت ان تعطّل النظرة الإيجابية إليه لكنه تفاداها بالروح الملحمية التي حلّقت في شِعرَه فوق الغنائية المألوفة خارِقةً جدار الصوت، ويتلقّف معاناة جبران خليل جبران مع لبنانيين ضَيّعوا هويته النفسية والأدبية بالكلام غير الجَدي ولا المُجدي عنه، يتوقف طليس طويلاً عند الموسيقى في شِعر بدر شاكر السياب ربطاً بذلك الزمن الشعري في الأربعينات. ويطرح أسئلة حول البُعد الموسيقي لا الإيقاعي ولا التفعيلي في شِعر السيّاب. طليس يبحث عن السيّاب الموسيقى ذلك أنه يقيس على ذلك الزمن حيث لم يكن الخروج على العروض أمراً معروفاً أو حتى ممكناً، وكان التعلّق بالشكليات في المعنى والشكل الشعري من نَوافل القول، فجاء السيّاب كأول مُكتشف (مع نازك الملائكة بل أكثر منها) وراح يتعامل مع تفعيلات العروض وكأنها مادة للأخذ والرد والمناقشة والتعديل لا كأمر مقدّس وثابت ونهائي. والغوص في هذا المنحى الذي كان ابتدائياً يومها وكأنه ليس مسلكاً جامداً بل كحقل خيالي يمكن اللعب فيه. كان بدر شاكر السياب جريئاً فوق العادة، في تقدير طليس، لأنه اعتمد على ما في نفسه هو من الموسيقى وبعد ذلك من الإيقاعات ثم راح يُداعب التفاعيل، فيأخذ واحدة إلى قصيدة حزينة المضمون وأخرى إلى قصيدة فرِحة المضمون، ثم يُبدّل التفعيلات بين قصائد أخرى معتبراً أن الأصل هو في الإيقاع الموسيقي الجمالي الذي كان متجمّداً لألف سنة وأكثر، فجاء بدر وفتح هذا الباب على مصراعيه، ويكاد يقول طليس في كتاب «لحظة... يا زُعَماءَ الشّعر» أنّ السياب، الذي توفي في الأربعين من العمر، لو عَمّر أكثر لكان أكثر الشعراء العرب قدرة على ابتكار أوزان جديدة حاولَ جماعة «شِعر» أن يقوموا بها فلم يوَفّقوا. ذلك أن الارتباط العضوي بين قصيدة السياب والإيقاع الذي يعني الموسيقى أكثر مما يعني التفعيلة عنده، هو توجّه إبداعي في توجيه الشّعر إلى حيث التوهج في التفاصيل الحركية.
لكنّ حالة المصالحة التي ذهب إليها عبد الغني طليس في شأن الشاعر أحمد شوقي كانت ذكية وأقرب إلى المنطق والتحكيم المُرهف منها إلى عشوائية الألقاب والأفكار. لقد كان هناك سجال عقيم وناري الطباع بين جهتين، واحدة تعتبر أحمد شوقي أمير الشعراء بلا منازع، وواحدة تعتبر أنّ هناك «مداخلات وتسويات وظلامات» حصلت في اختياره أميراً للشعراء من دون غيره. وكان المدافعون عنه يجدون قصائد يستندون إليها، والمحرّضون عليه يجدون في قصائده ما يناسب دعاواهم في عدم أهليته للموقع، وصحافة مصر ذلك الزمن شاهدة. جاء عبد الغني طليس ورأى بعد تحليل كثير من القصائد والمواقف، والمناسبات التي كتب فيها أحمد شوقي قصائده أن ثمة تساوياً وتوازناً بين الجيد والعميق من شِعره، والسيئ والسطحي منه، والنماذج موجودة بمجرد فتح مجلّدات دواوينه. تصنيف طليس أن شعر شوقي بمثابة ميزان فيه تعادُل بين لقب أمير الشعراء في كفّة، ولقب شاعر تقليدي في الكفة الثانية كان دقيقاً وحكيماً. ويعتبر طليس أنّ التعادل سببه سَيَلان القصائد بلا رقيب ولا حسيب نفسي عند أحمد شوقي، وهذه مَقتلةُ أيّ فنان.
وفي «لحظة... يا زُعَماءَ الشّعر» تحريض من طليس لجميع الشعراء المعاصرين على تجاوز الشكليات والعلاقات الشخصية وتبادل المنافع بينهم، فيحصل سكوت وانحباس نقدي لا يتكلم فيه أحد عن أحد خوفاً على العلاقة وحرصاً على عوامل النفاق في الاستمرار، ويدعوهم إلى التحرر من قيود الحيادية والمجاملات. وإلّا كيف يمكن قبول أن غالبية شعراء العرب الذي ظهروا في السبعينات وما فوق، لا يقولون كلمة في سابقيهم الكبار، وإذا كان واحدهم قال يوماً رأيه، فإنّ متغيّرات جدية وحقيقية حصلت في ساحة الشعر العربي تستدعي انخراطاً جديداً في النقد الموضوعي، ذلك انّ «صمت القبور» مُعيبٌ والشعراء ما زالوا يصعدون إلى المنابر ويتحّدثون. فعَمّ يتحدثون ؟

QOSHE - «لحظة... يا زُعَماءَ الشِّعر»... طليس يستعيد الكبار ويحُضّ المعاصرين ! - طارق ترشيشي
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

«لحظة... يا زُعَماءَ الشِّعر»... طليس يستعيد الكبار ويحُضّ المعاصرين !

4 0
14.02.2024

دارت الحياة دورتها المنتظَرة وغير المنتظَرة التي تكشف وتخفي على كيفها، ونظَر عبد الغني طليس خلفَه ليُلقي تحية على شُعراء أحَبّهم، وهُم بمقدار وجودهم خلفه، موجودون أمامه «يُلقون» قصائدهم ولو راحلين ويترصدون صداها.

كتاب طليس هو تَردّداتُ العصفِ الذي تركه شُعراء كبار في حياة العرب العامة وحياة طليس الثقافية الخاصة، ومحاولة لإعادة قراءة وبحثِ ما كتبوه وتركوه للأجيال في مراحل زمنية متفرّقة لكنها (أواسط القرن العشرين) الأسطَع بين سواها، لتشكيل خطوط حكمَت على الشّعر في المنطقة العربية بنهضةٍ غير مسبوقة في تلك الحقبة إلّا ربما بما حفل به العصر العباسي بمراحله الثلاث الأساسية حين أدّى الاختلاط بين الشعوب والترجمات والخبرات مع «الآخرين» الكثُر في ذلك الوقت... إلى اعتبار الشعر العباسي هو الأغنى في المكتبة العربية السابقة واللاحقة شِعراً وترجمة وفلسفة ورياضيات...
هم ثلاثة عشر شاعراً، بينهم الشاعر الفرنسي بودلير في معرض توأمة مع الشاعر العربي أبي نواس في طبيعة حياته وتفاصيلها وكذلك طبيعة شِعره وإيحاءاته. ولعل عناوين البحوث - المقالات كافية لتدلّ على المضمون كاملاً، بمعنى توفيق طليس في اختصار كل مقال - بحث بسطرٍ واحد في العنوان. وعلى رغم من كثرة الأفكار التي يطرحها عن كل شاعر، إلا أنه لا يسمح لأجنحة الشاعر المُتَحَدَّث عنه أن تُبعد طليس عن الموضوع المحدد الذي اختاره. وفي هذا تركيز بالغ تجلّى بوضوح تام في البحث الخاص بالمتنبي كشاعر برع في وصف الكرَم والفروسية ولم يكن كشخص كريماً (بل كان بخيلاً جداً حتى مع عائلته) ولا كان فارساً بمعنى المشاركة في أي قتال، عندما انتبهنا الى أنّ طليس يعود في البحث، بعد كل فكرة من الفكرتين السلبيتين المعروضتين، إلى........

© الجمهورية


Get it on Google Play