أن تُبعثَ من جديد، هو أمرٌ عسير المنال ولا يُدرَكُ حتّى تلتحمَ قوى الخير بالضمير الانسانيّ المُضطجِع على وسائد النسيان، لتحرّكَ مكامنَ الانسانيّة ونوازعَها، وتفصلَ بين الحقّ والباطل فتُجزى النفسُ بما فعلت وما قد تأتيه لاحقاً.

في رواية «البعث»، يفرض تولستوي مبادئه المستقيمة ونظرتَه الدينيّة كوسيلة إصلاحٍ لمآسي الحياة، ويعرضُ لنا قصّة كاترين، التي أنجبتها أمّها ثمرةً لعلاقةٍ محرّمة وماتت من بعدها، فتربّت في قصر شقيقتين من النبلاء، تقوم بخدمتهما بإجلالٍ عظيم وامتنان كبير.

لكنّ حياتها تأخذ مَنحى آخر حين يأتي ابن شقيق الأختين الأمير ايفان ليرمي سهام وجده في قلب كاترين، إلّا انّ انخراطه في صفوف الجيش وتبوّأه منصباً مرموقاً بالاضافة إلى ثرائه الموفور يجعله انساناً أنانيّاً يرمي الى الانخراط باللذّات العابرة والافراط بتصيّد لحظات النشوة. وبعد زيارته الثانية للقصر يغوي كاترين ويقوم بمعاشرتها ثمّ يغادر القصر في اليوم التالي بعد أن دسّ في عبّها القليل من المال، وكأنّه يغرسُ نصلَ الإهانة في شرفها المطعون.

تظهر أعراض الحمل على كاترين فتطردها عمّتا الأمير من القصر، وتهيم على وجهها، حتّى تحين لحظة ولادتها فتضع طفلاً ميتاً. تحاول بعد زلّتها أن تجدَ عملاً، لكنّ الرجال في جميع المنازل التي عملت فيها يلاحقونها طامعين في جسدها، حتّى تحترفَ البغاء وتستقرّ فيه.

أمّا الأمير ايفان فقد كان يتهيّأ للاقتران من آنسة ثريّة تقوم بملاحقته تدعى مارغريت، ولكنّه يسعى أوّلاً لأن ينهي علاقةً آثمة ربطته بزوجة صديقٍ له. وقد تبلّغ رسالة من المحكمة كي يكون أحد أعضاء المحلّفين فيها نظراً لتاريخه العسكري المشرّف وأصله الطيّب.

تأخذه الرهبة وتشلّ لسانه المباغتة حين يرى من بين وجوه المتّهمين في قضيّة تاجرٍ وضعت له بغيّ التقطها من الشارع السمّ في الطعام بمعاونة طبّاخ الفندق وزوجته، بكاترين التي أغواها من عشر سنواتٍ مَضت وهي ترمق الجميع خائفة بعينيها الحولاوين الجميلتين وتشدّد على براءتها. يجتمع المحلفون ويجزمون ببراءة كاترين، ولكن نظراً لخطأ ارتكبه رئيسهم بأنْ كتبَ سهواً أنّ المتّهمة بريئة من «جرم السرقة» ونسي أن يضع كلمة «والقتل» إلى جانب العبارة، تقضي المحكمة بأن تُسجن كاترين لمدّة أربع سنوات وتقضي عقوبتها في سيبيريا.

ينقضّ الخبر كالصاعقة على رأس الأمير ويصمّم على مساعدة كاترين، ويعيّن لها محامياً شهيراً ويقوم بزيارتها ليكفّرَ عن إثمه الجاحد الذي أتاه بحقّها، فتستقبله بوجومٍ وفتور، ثمّ يعتريها الحنق وتقوم بطرده. لكن، ومع تكرار زياراته لها وتصميمه على مساعدتها، يرقّ قلبها ويلين له. يطلب منها الزواج ويعرض عليها أن يلحق بها الى سيبيريا حين يتمّ نقلها، ولكنّها ترفض لعلمها أنّ مقدار التكافؤ بينهما شاسعٌ جداً.

يلحّ الأمير عليها بطلبه، ويقوم بمساعدة أصدقائها من السجناء المظلومين، مبيّناً مقدار التعسّف الغاشم الذي يتكبّده هؤلاء في غياهب السجون، ومظهراً سيّئات المجتمع الاقطاعي واحتكاره الفادح للانسانيّة المهمّشة، وتفضيل طبقة الأسياد الذين يمتلكون كلّ شيء تاركين فتات بقاياهم للفلّاحين والعمّال، ثمّ يقوم بتوزيع نصف أراضيه على الفلّاحين. وهنا يلمّح تولستوي عن عدم تجاوبه مع النظرية الاشتراكية ولكنّه يناصر الفلسفة الدينيّة التي تقضي بأن يتقاسمَ الانسان ما يملكه مع أخيه الفقير.

يُرفض طلب الاستئناف الذي يقدّمه المحامي لتبرئة ساحة كاترين، فيرفع الأمير طلب استرحام للامبراطور، ثمّ يرافقها إلى سجن سيبيريا ليكونَ إلى جانبها في أوقاتها العسيرة.

تلحّ عليه نفسه بأن يبقى إلى جانبها رغم كلّ الفروقات الطبقيّة التي تعوق علاقتهما، ويشهد على ظلم القانون وتطبيقه الجائر في حقّ الناس، ويتحقّق له ما أراد فيعفو الامبراطور عن كاترين، فيذهب إليها ليزفّ لها الخبر، وتفاجئه بقرارها بأنّها ستتزوّج سجيناً سياسيّاً وتعزف عن الارتباط به. يتقبّل قرارها ولكنّه يتقيّن بأنّها تقوم بهذا كي لا يتجسّم تبعات الارتباط بها.

يصرُّ ايفان على مواصلة سعيه لإصلاح المجتمع، ويختم تولستوي قصّته بقوله وللحديث بقيّة.

تولستوي رائد النهضة الاصلاحيّة في عصره، وضع في روايته «البعث» حزمة من أفكاره التوجيهيّة الدينيّة، مشيراً إلى الضمير الانساني الذي لا يخفت تأجّجه ولا يصمت همسه اللائم في عقل الانسان، ويبرهن أنّ البعثَ الأخلاقيّ غير مستحيل، بل انّه يصبح حاجةً مُلحّة حين تنقرض المبادئ وينتشر الفساد.

QOSHE - تولستوي عندما يبعث الضمير حيّا - نسرين بلوط
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

تولستوي عندما يبعث الضمير حيّا

5 0
19.02.2024

أن تُبعثَ من جديد، هو أمرٌ عسير المنال ولا يُدرَكُ حتّى تلتحمَ قوى الخير بالضمير الانسانيّ المُضطجِع على وسائد النسيان، لتحرّكَ مكامنَ الانسانيّة ونوازعَها، وتفصلَ بين الحقّ والباطل فتُجزى النفسُ بما فعلت وما قد تأتيه لاحقاً.

في رواية «البعث»، يفرض تولستوي مبادئه المستقيمة ونظرتَه الدينيّة كوسيلة إصلاحٍ لمآسي الحياة، ويعرضُ لنا قصّة كاترين، التي أنجبتها أمّها ثمرةً لعلاقةٍ محرّمة وماتت من بعدها، فتربّت في قصر شقيقتين من النبلاء، تقوم بخدمتهما بإجلالٍ عظيم وامتنان كبير.

لكنّ حياتها تأخذ مَنحى آخر حين يأتي ابن شقيق الأختين الأمير ايفان ليرمي سهام وجده في قلب كاترين، إلّا انّ انخراطه في صفوف الجيش وتبوّأه منصباً مرموقاً بالاضافة إلى ثرائه الموفور يجعله انساناً أنانيّاً يرمي الى الانخراط باللذّات العابرة والافراط بتصيّد لحظات النشوة. وبعد زيارته الثانية للقصر يغوي كاترين ويقوم بمعاشرتها ثمّ يغادر القصر في اليوم التالي بعد أن دسّ في عبّها القليل من المال، وكأنّه يغرسُ نصلَ الإهانة في شرفها المطعون.

........

© الجمهورية


Get it on Google Play