لم تكن مجرد مصادفة زمنية بحتة أن يعود الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين الى بيروت في الوقت نفسه الذي يزور فيه الوزير الإسرائيلي بيني غانتس واشنطن ويلتقي في البيت الأبيض نائب الرئيس الأميركي كامالا هاريس. في الواقع هناك تقاطع في العناوين العريضة ما سمحَ «بتمرد» غانتس على نتنياهو واستعادة هوكستين مهمته التفاوضية.

فبعد التواصل الأخير بين الموفد الأميركي والمسؤولين اللبنانيين كان واضحاً أنّ الطرف اللبناني الخفي والمعني الفعلي بالتفاوض، أي «حزب الله»، لن يَلج المسار التفاوضي الفعلي إلا بعد حصول وقف لإطلاق النار في غزة. واغتنم هوكستين وقته في وضع تصورات مختلفة لكامل المشهد وصولاً الى تطبيق القرار 1701. وهو بقي على تواصل ولو من بعيد ببعض المسؤولين اللبنانيين وفي طليعتهم الرئيس نبيه بري من خلال اتصالات هاتفية.

في هذا الوقت كان الضغط الأميركي يتصاعد على الحكومة الإسرائيلية للذهاب الى وقفٍ مؤقت لإطلاق النار في غزة. وشهدت الأسابيع الماضية تصاعداً لمنسوب التوتر في العلاقات بين البيت الأبيض وتل أبيب، الى أن باشرت إدارة بايدن العبث بالتركيبة الحكومية. فجرى التحضير لزيارة يقوم بها الغريم الأساسي لنتنياهو، والذي يحظى بالأغلبية الشعبية للوصول الى رئاسة الحكومة (وهو بيني غانتس)، الى البيت الأبيض. هذا مع العلم أن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يوجّه أي دعوة لنتنياهو لزيارة البيت الأبيض منذ عودته الى رئاسة الحكومة، وهو حدث نادر في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية. إذاً من المفترض أن يصل غانتس الى واشنطن اليوم رغماً عن إرادة نتنياهو. وسيلتقي أرفع موقع يجيزه البروتوكول وهو نائب الرئيس الأميركي. نتنياهو الذي صُدم بخبر الزيارة، والتي أبلغه بها غانتس يوم الجمعة الماضي بعد أن كان قد أخفى عنه تفاصيلها، صاح بوجهه رافضاً زيارته وهو يقول: هنالك رئيس حكومة واحد فقط. وترجم نتنياهو غضبه بأن أمرَ طاقم السفارة الإسرائيلية في واشنطن بعدم توفير الخدمات لغانتس وفريقه المرافق، وبعدم مرافقته في الإجتماعات التي ستُعقد، وأيضا بعدم تأمين تغطية مصاريف الرحلة من صندوق الدولة، وهو ما سيتكفّل به حزب غانتس. والأهم أنّ غانتس سيبحث في البيت الأبيض التطورات المطروحة في غزة والأوضاع في جنوب لبنان، وهنا بيت القصيد.

ففي الوقت نفسه سيكون هوكستين قد وصل الى بيروت في زيارة لساعات، وباشر لقاءاته بالمسؤولين اللبنانيين الأربعة. لكن من الواضح أن محطتين أساسيتين تتركز حولهما زيارته، هما: رئيس المجلس النيابي وقائد الجيش. فالأول يحمل مفتاح التفاوض مع «حزب الله»، والثاني يحمل خارطة الحلول الميدانية وقدرة تطبيق القرار الأممي.

وكان هوكستين قد التزم سابقاً أنه لن يعود الى لبنان إلا بعد حصول التطور الموعود في غزة أي وقف إطلاق النار، لينسحب ذلك على الجبهة اللبنانية ما سيسمح بالبدء في التفاوض، تماماً كما التزم «حزب الله». وتأتي عودة هوكستين قبَيل حصول هذا التطور الموعود بأيام، إلا إذا حصلت مفاجآت غير محسوبة وخارجة عن إرادة البيت الأبيض.

في بيروت سيطرح الموفد الرئاسي الأميركي بعض الأفكار وسيسأل في الوقت نفسه عن التصور اللبناني. وما من شك أنّ لهوكستين تصوراً متكاملاً في ذهنه سيعمل على إيجاد الطريق لتحقيقه، ولكن بعد تدوير العديد من الزوايا على الأرجح. وهذا التصور كان قد ناقش بعض مراحله مع أطراف لبنانية، ويقوم على تجزئة الحل الى مراحل ثلاث تبدأ من تثبيت وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية فور إعلان وقف إطلاق النار في غزة.

وسيجري الاتفاق على تدابير ميدانية تعتبر ضامنة لقرار وقف النار. لكنّ العقدة الأبرز والسؤال الذي لا أحد يحمل جوابه هو: ماذا لو عادت المعارك الى غزة بعد انتهاء هدنة الاسابيع السِت، هل ستعود الجبهة اللبنانية الى الإشتعال؟

في الواقع، إنّ «حزب الله»، وفور إعلان وقف النار، سيطلب من جميع الأهالي العودة الى قراهم ومنازلهم في الجنوب. وأحد الأهداف التي يتوخّاها إجهاض سعي إسرائيل لخلق منطقة عازلة وإخلاء المنطقة الحدودية من «حزب الله». فعناصره هم من أبناء القرى الحدودية، وعودتهم تشكل إطارا طبيعيا لعودة الأهالي الى بيوتهم.

أغلب الظن أن الموفد الأميركي سيسعى مع «حزب الله»، عبر الرئيس بري، الى تثبيت تدابير تحول دون عودة المواجهات الى جنوب لبنان في حال انتهاء هدنة غزة. ذلك أن المرحلة الثانية ستتضمن إزالة التعديات الإسرائيلية عن الحدود اللبنانية، والتي كان وصفها أمين عام «حزب الله» بالفرصة التاريخية.

ووفق التصور الذي عمل هوكستين على هندسته ثمّة حاجة ملحّة لانتخاب رئيس للجمهورية وإعادة تكوين السلطة. والأرجح أن يكون ذلك بالتوازي مع الاتفاق على تثبيت الحدود البرية وقبل الشروع في المرحلة الثالثة والمتعلقة بتطبيق القرار 1701.

من هنا يمكن فهم التخفيف الأميركي لاندفاع الدول الأعضاء في اللجنة الخماسية، لا كما يجري تصويرها في بعض الأوساط اللبنانية بأنها رغبة أميركية بنسف اللجنة الخماسية.

وإذ تنفي المصادر الديبلوماسية الأميركية ما نُقل عن السفيرة الأميركية حول نيتها الخروج من اللجنة الخماسية وتعتبرها «رواية غير صحيحة»، أشارت مصادر ديبلوماسية أخرى معنية باللجنة الخماسية الى أنّ اللجنة ستعقد اجتماعات إضافية وفق تركيبتها الخماسية المعروفة.

وفي معرض استغرابها لما جرى تناقله فإنّ المصادر الديبلوماسية المعنية قالت إنّ السفيرة الأميركية ليزا جونسون، وبعد اللقاء الذي جمع سفراء الخماسية بالرئيس نجيب ميقاتي، سألت عن الموعد المقترح للإجتماع المقبل للسفراء في تلميحٍ ضمني الى رغبتها بأن تكون السفارة الأميركية هي مكان الاجتماع. إلا أنه جرى التفاهم سريعا على اعتماد مبدأ الأقدمية وهو المُتّبَع في بروتوكول السلك الخارجي، بحيث يصبح مقر السفير القطري هو مكان الإجتماع المقبل يليه مقر السفير المصري، وأخيرا مقر السفيرة الأميركية.

وفي الاجتماع الأخير الذي كان قد عقد في قصر الصنوبر، لم تكن ليزا جونسون متحمسة لاجتماع الخماسية على المستوى السابق خارج لبنان. كان تفسيرها أن ذلك سيُفقد زخم اجتماعات السفراء في بيروت، لذلك فمن الأفضل حصر الاجتماعات بالسفراء فقط أقله في المرحلة الراهنة. وهي طالبت بتوحيد الخطاب في الإطلالات الإعلامية، وبألا يتحرك أو يتحدث أحد باسم اللجنة الخماسية. وهو ما فسّر بأنه مُوجّه للودريان. وخلال اللقاء برئيس الحكومة سأل ميقاتي عن موعد عودة لودريان، فجاءه الجواب من السفير الفرنسي بأنه لن يأتي قريباً الى لبنان.

وتعتقد الأوساط الديبلوماسية بأنّ الكلام عن خلافات عاصفة داخل اللجنة غير صحيح، وأنّ اعتبار البعض بأن اللجنة الخماسية باتت بحاجة الى طاولة حوار قد يكون يعكس رغبة البعض بإنهاء عمل الخماسية ليس إلّا.

إذاً، قد تكون الحقيقة في العمل على «تَبطيء» وتيرة تحرك الخماسية لكي تتمكن من مواكبة التصور الذي رسمه هوكستين، والمرحلة الحالية هي مرحلة تثبيت وقف النار بعد غزة، على أن تأتي مرحلة إعادة تكوين السلطة في اللحظة المؤاتية ووفق «وظيفة» محددة للرئيس المقبل، وهي ضمان تطبيق القرار 1701 والإشراف على كامل الاتفاقات التي سيجري التفاهم حولها في الجنوب. وهو ما يعني وصول شخص يحظى بثقة العواصم الغربية و»حزب الله» في الوقت عينه، ويعرف جيداً ما معنى القرار 1701 والاتفاقات التي جرى التفاهم حولها، ومن المهم أن يكون جرى اختباره في محطات صعبة، ذلك أنّ الظروف لا تسمح بترف إجراء تجارب غير مضمونة النتائج سلفاً.

لكن الأهم من كل ذلك فك العقدة الأبرز وهي تحقيق وقف إطلاق النار في غزة، وإلا فكلّ ما سبق سيبقى ملفاً مغلقاً.

QOSHE - مبالغات لبنانية لتباينات الخماسية - جوني منير
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

مبالغات لبنانية لتباينات الخماسية

6 10
04.03.2024

لم تكن مجرد مصادفة زمنية بحتة أن يعود الموفد الرئاسي الأميركي آموس هوكستين الى بيروت في الوقت نفسه الذي يزور فيه الوزير الإسرائيلي بيني غانتس واشنطن ويلتقي في البيت الأبيض نائب الرئيس الأميركي كامالا هاريس. في الواقع هناك تقاطع في العناوين العريضة ما سمحَ «بتمرد» غانتس على نتنياهو واستعادة هوكستين مهمته التفاوضية.

فبعد التواصل الأخير بين الموفد الأميركي والمسؤولين اللبنانيين كان واضحاً أنّ الطرف اللبناني الخفي والمعني الفعلي بالتفاوض، أي «حزب الله»، لن يَلج المسار التفاوضي الفعلي إلا بعد حصول وقف لإطلاق النار في غزة. واغتنم هوكستين وقته في وضع تصورات مختلفة لكامل المشهد وصولاً الى تطبيق القرار 1701. وهو بقي على تواصل ولو من بعيد ببعض المسؤولين اللبنانيين وفي طليعتهم الرئيس نبيه بري من خلال اتصالات هاتفية.

في هذا الوقت كان الضغط الأميركي يتصاعد على الحكومة الإسرائيلية للذهاب الى وقفٍ مؤقت لإطلاق النار في غزة. وشهدت الأسابيع الماضية تصاعداً لمنسوب التوتر في العلاقات بين البيت الأبيض وتل أبيب، الى أن باشرت إدارة بايدن العبث بالتركيبة الحكومية. فجرى التحضير لزيارة يقوم بها الغريم الأساسي لنتنياهو، والذي يحظى بالأغلبية الشعبية للوصول الى رئاسة الحكومة (وهو بيني غانتس)، الى البيت الأبيض. هذا مع العلم أن الرئيس الأميركي جو بايدن لم يوجّه أي دعوة لنتنياهو لزيارة البيت الأبيض منذ عودته الى رئاسة الحكومة، وهو حدث نادر في تاريخ العلاقات الأميركية الإسرائيلية. إذاً من المفترض أن يصل غانتس الى واشنطن اليوم رغماً عن إرادة نتنياهو. وسيلتقي أرفع موقع يجيزه البروتوكول وهو نائب الرئيس الأميركي. نتنياهو الذي صُدم بخبر الزيارة، والتي أبلغه بها غانتس يوم الجمعة الماضي بعد أن كان قد أخفى عنه تفاصيلها، صاح بوجهه رافضاً زيارته وهو يقول: هنالك رئيس حكومة........

© الجمهورية


Get it on Google Play