يُطلُّ شهر الصوم الرمضاني على المسلمين ليواكب شهر الصوم عند المسيحيين، والصوم واجبٌ ديني يعـزّزُ الإتصال بالله، يطهّر النفوسَ من أرجاسها والأخلاقَ من شرورها، ويشفع بصاحبه يوم القيامة.
لعلّ المنظّمات الدولية والقوى العربية التي تتلطّخ بالدم في القرن الواحد والعشرين، تسترجع ما كان في العصر الجاهلي والقرون الوسطى بما هو أكرمُ وأسلمُ وأرحم.
جاء في التاريخ: أنَّ العرب في الجاهلية حين سئموا من القتال والحروب، جعلوا أربعة أشهر حراماً فعقدوا أسواقاً تجارية في قريـة «عكاظ» يأتيها التجار من مصر والشام والعراق وتتوافد إليها قبائل العرب بأدبائها وشعرائها، فكانت سبباً في التقريب بين العرب، وكان أبـرز شعرائها من أصحاب المعلّقات السبع التي كُتبَتْ بماء الذهب على أستار الكعبة.
ومثلما كانت قريـة «عكاظ» التي تقع على الشمال من بلدة «الطائف» محطّةً للتوافق بين القبائل العربية، هكذا علَّقت «الطائف» الحرب بين القبائل اللبنانية المتقاتلة في حرب 1975، والفارقُ في سوء العاقبة أنّ اتفاق الطائف لم يعلّق المعلقات على أستار لبنان ولم يعلّق الحربَ فيه بسبب الإفتقار إلى الشعر والشعراء والأدب والأدباء.
في العودة إلى الطبائع الجاهلية، تعود بنا الذاكرة إلى ما كان يتخلّق به عربيّ البادية من نزعة إلى الحرية والإستقلال، وما كان يتحلّى بـه من شرفٍ وكـرم ومروءةٍ وعـزّة نفس ووفاء، وبذْلِ الأعـزِّ محافظةً على ضعيفٍ أو قريبٍ أو جـارٍ أوْ مستجير.
في القرن الخامس، وحوالي سنة 550 ميلادية قال عنترة بن شداد:
وأغضُّ طَرْفي ما بَدتْ لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
وفي القرن الواحد والعشرين، وسنة 1994 تعرّضت حوالي 200 ألف امرأة للإغتصاب خلال حـرب الإبادة في دولة «رواندا» كمثل ما أصبح الإغتصاب شائعاً في شتى الحروب العصرية القائمة.
هكذا يتدحرج التاريخ الحضاري والإنساني إلى الخلف، من دون أن نأخذ من الخلف عِبـراً نرتقي بها إلى الأمام.
بعد الحرب العالمية الأولى عُقـدَ مؤتمر الصلح في باريس ومنه انبثقت معاهدة «فرساي» التي اعتبرت نـزع السلاح هـو الوسيلة الفضلى لتحقيق السلام العالمي، وأنشئت عصبة الأمم لحلّ المشكلات الدولية بغير لغـة العنف والحرب.
وبعد الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية استمرّت الحروب عنيفةً تستهدف الشعوب المستضعفة وكأنّها سمكٌ في بحر الكبيرُ فيه يبتلع الصغير.
أين أوروبا اليوم من أوروبا الأمس حين جعل المقاتلون «هدنةً ربَّانية»تبطل أثناءها المنازعات وتُحقَنُ الدماء.
وأين العرب اليوم من عرب الأمس لا يسأمون من القتال ولا يصومون عن الحروب إنطلاقاً من شهر رمضان والصيام مدخل إلى السلام..؟
بعد استشراء الشقاق بين الهندوس والمسلمين راح «غاندي» يبدأ صيامه في بيت رجـل مسلم هو: «مولانا محمد علي»، ليكون الصيام رمزاً للوفاق بين المسلمين والهندوس.
وحين وصل النبي إلى يثرب ووجد اليهود يصومون في يـوم عاشوراء قـرّر أن يصوم مع اليهود في يوم الغفران (نقلاً عن إبن العباس والبخاري).
والمسيح صام أربعين يوماً في البريّـة لإسقاط تجربـة الشيطان...
والبابا يوحنا بولس الثاني دعا المسيحيين إلى الصوم يوماً مع المسلمين...
ويوم «الغفران» عند اليهود يفرض عليهم أن يصوموا كفّارة عمّا يقومون بـه من ذنوب وآثام... وإن شاؤوا أن يصوموا عما قاموا بـه من مجازر وآثـام في «قطاع غـزّة» لاستوجَبَ ذلك ألف عام من الصيام.
نعم... الصيام مدخل إلى السلام، إلاّ إذا كان أكذوبةً في الشرائع السماوية والإنسانية، وإذ ذاك قولوا مع الشاعر:
صلّى وصامَ لأمرٍ كانَ يطلبُهُ فلما انقضى الأمرُ لا صلّى ولا صامَا

QOSHE - صومٌ عن الأكلِ أوْ صومٌ عنِ القتلِ...؟ - جوزف الهاشم
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

صومٌ عن الأكلِ أوْ صومٌ عنِ القتلِ...؟

11 0
08.03.2024

يُطلُّ شهر الصوم الرمضاني على المسلمين ليواكب شهر الصوم عند المسيحيين، والصوم واجبٌ ديني يعـزّزُ الإتصال بالله، يطهّر النفوسَ من أرجاسها والأخلاقَ من شرورها، ويشفع بصاحبه يوم القيامة.
لعلّ المنظّمات الدولية والقوى العربية التي تتلطّخ بالدم في القرن الواحد والعشرين، تسترجع ما كان في العصر الجاهلي والقرون الوسطى بما هو أكرمُ وأسلمُ وأرحم.
جاء في التاريخ: أنَّ العرب في الجاهلية حين سئموا من القتال والحروب، جعلوا أربعة أشهر حراماً فعقدوا أسواقاً تجارية في قريـة «عكاظ» يأتيها التجار من مصر والشام والعراق وتتوافد إليها قبائل العرب بأدبائها وشعرائها، فكانت سبباً في التقريب بين العرب، وكان أبـرز شعرائها من أصحاب المعلّقات السبع التي كُتبَتْ بماء الذهب على أستار الكعبة.
ومثلما كانت قريـة «عكاظ» التي تقع على الشمال من بلدة «الطائف»........

© الجمهورية


Get it on Google Play