دخل لبنان مبدئياً في العدّ العكسي لإقفال بوابة الجنوب المفتوحة منذ العام 1967، وفي حال لم تطرأ أحداث غير منظورة، فإنّ الحدود ستعود للمرّة الأولى بعد عقود، إلى الشرعية اللبنانية، ولكن ماذا عن الحياة السياسية بعد هذا التطور التاريخي؟

سيواجه «حزب الله» للمرّة الأولى منذ نشأته مشكلة خسارة أحد أبرز أدواره الذي شكّل أحد أبرز أسباب صعوده العسكري والشعبي، فانتهاء حرب غزة يعني أن لا عودة إلى ما قبلها لا في غزة ولا في جنوب لبنان، وسيصعب على «حزب الله» وخلفه إيران، قلب الطاولة الدولية، وسيناريو العام 2006 بتعليق تنفيذ القرار 1701 لم يعد قابلاً للتكرار، وبمعزل عن الخطاب الرسمي للحزب، فلا شك بأنّه يدرك ضمناً بأنّ عملية «طوفان الأقصى» ستؤدي إلى خسارته ورقة الحدود المفتوحة لعملياته العسكرية.

ولا يفيد بشيء الكلام عن سلاح دفاعي او لحماية الثروات اللبنانية، فكل هذا النقاش الرامي إلى احتفاظ «حزب الله» بسلاحه لن يبدِّل في حقيقة انّ سيطرته على الحدود لن تعود قائمة، وانّ الحدود ستعود إلى الشرعية اللبنانية، وانّ قرار الحرب لن يعود ملكه، وهذا الوضع سيكون جديداً عليه وسيحاول تغطيته بغبار الخطابات من قبيل جهوزيته لمواجهة أي خرق إسرائيلي والأدبيات المعروفة، ولكن في الواقع سيكون عملياً أمام انتهاء دوره العسكري في مواجهة إسرائيل.

ولا شك انّ إيران ستحاول المستحيل لإبقاء الحدود اللبنانية تحت سيطرتها، وإبقاء الدور العسكري لـ«حزب الله» على ما هو عليه، ولكن الوضع الذي نشأ بفعل عملية «طوفان الأقصى» وضع طهران أمام خيارين: الحرب الشاملة التي لا يبدو انّها في وارد الذهاب إليها، وخسارة أوراقها العسكرية وتحديداً في غزة وجنوب لبنان، حيث انّ عملية 7 تشرين أيقظت مجدداً في اللاوعي الإسرائيلي، الخطر الوجودي الذي أعاد توحيد المجتمع وتقديم الأولوية العسكرية والأمنية على اي اعتبار آخر، والسعي إلى إزالة الخطر من داخل الكيان وعلى الحدود.

ولن تفلح كل محاولات «حزب الله» إعادة الأمور إلى ما قبل 7 تشرين الأول، لأنّ إسرائيل لن تجازف بحرب جديدة بعد سنوات، وستحوِّل عملية «طوفان الأقصى» إلى عقيدة قتالية لمنع تكرار ما حصل، وبالتالي سيكون لبنان في الأشهر القليلة المقبلة على موعد مع وضع سياسي استراتيجي جديد، بمعزل عن المخارج الشكلية التي سيعتمدها الحزب، لأنّ بوابة الجنوب ستُقفل نهائياً للمرّة الأولى منذ ما بعد حرب العام 1967، وبالتالي، السؤال الذي سيطرح نفسه: كيف سيكون عليه الوضع السياسي الداخلي في ضوء هذا التطوّر الاستراتيجي؟

لا يجوز الرهان طبعاً على انّ «حزب الله» سيسلِّم سلاحه وينخرط في الحياة السياسية كأي حزب سياسي آخر، فهذا الاحتمال غير وارد إطلاقاً، كون السلاح يشكّل علّة وجود الحزب ووسيلة حيوية تحقيقاً لمشروعه، ومع استبعاد هذا الاحتمال تبقى هناك ثلاثة احتمالات يمكن ان يعتمدها الحزب:

الاحتمال الأول، أن يعيد وضع المؤتمر التأسيسي على الطاولة كونه يدرك انّ بوابة الجنوب أُقفلت لفترة طويلة، ولن يكون باستطاعته فتحها سوى في حال توفُّر معطيات إقليمية جديدة، ما يعني خسارته الورقة الأبرز في دوره، ومع انتفاء دوره في سوريا أيضاً، لا يبقى أمامه سوى السعي إلى إعادة النظر بالنظام تشريعاً لسلاحه من جهة، وتثبيتاً للفيتو المذهبي من جهة أخرى، خصوصاً انّه يريد التعويض داخلياً عن خسارته خارجياً ورقة استراتيجية كبرى، وهذه الخسارة ستؤثِّر سلباً على دوره الداخلي، حيث سيتراجع تأثيره ونفوذه، ومع خشيته ان تتمّ محاصرته مع الوقت سيسعى إلى تعديلات تؤدي إلى قوننة سلاحه الذي يمنحه التفوق السياسي.

ومعلوم انّ المؤتمر التأسيسي الذي سيسعى إليه الحزب تعويضاً عن إقفال بوابة الجنوب لا يمكن حصوله على البارد، ما يعني انّ المرحلة التي ستلي انتهاء حرب غزة ستشهد حماوة سياسية داخلية استثنائية، وهذه الحماوة لا تعني بالضرورة قدرة الحزب على تحقيق أهدافه، لأنّ الوضع في لبنان لا يشبه الوضع في العراق، فضلاً عن انّ الطوائف المسيحية والسنّية والدرزية لن تتساهل مع تعديلات جوهرية على النظام تُبقيه في حالة اللا دولة، لأنّه يستحيل قيام دولة فعلية في ظل سلاحين، وتجربة الحشد الشعبي في العراق أكبر دليل، واستنساخ هذه التجربة يعني استمرار الوضع القائم.

الاحتمال الثاني، ان يعتمد المسار نفسه الذي سلكه بعد حرب تموز 2006 من خلال التصعيد والتوتير السياسيين، سعياً لوضع يده على السلطة، وإذا كان التعديل الدستوري كتعويض له يتعذّر عليه تحقيقه، فسيحاول التعويض سياسياً من دون تعديل دستوري، عن طريق مزيد من تكريس الأعراف، ومحاولة ان تكون السلطة التنفيذية برأسيها موالية له، وقد وصل به الأمر في المرة السابقة إلى حدّ استخدام سلاحه. فهل إقفال 7 تشرين لبوابته الجنوبية سيدفعه إلى 7 أيار داخلية لفتح بوابته السياسية على مصراعيها، وذلك على غرار حرب 12 تموز التي أدّت إلى حرب 7 أيار وصولاً إلى اتفاق الدوحة؟

وكونه سيخرج من حرب غزة أضعف سياسياً من لحظة دخوله الحرب، وكونه يخشى من ان ترفع المعارضة سقف شروطها من باب خسارته لورقته العسكرية وسرديته السياسية، فسيلجأ إلى هجوم استباقي في محاولة لفرض أمر واقع سياسي يكرِّس إمساكه بالسلطة التنفيذية، لأنّ أكثر ما يريد تجنّبه ان تؤدي خسارته الإقليمية او تراجع مشروعه الخارجي، إلى تراجع تأثيره الداخلي، وهذا ما سيدفعه إلى المسارعة لقطع الطريق على أي استثمار للمعارضة عن طريق الإطباق على السلطة، في تكرار لسيناريو الإطباق الذي لجأ إليه الرئيس حافظ الأسد تجنّباً لأن يؤدي مسار مدريد للسلام إلى إخراجه من لبنان، فأحكم سيطرته على البلد، لتصبح المطالبة ببقاء جيشه صادرة عن المؤسسات الشرعية اللبنانية.

الاحتمال الثالث، ان يوازن بين حفاظه على سلاحه وسرديته بأهمية هذا السلاح الذي حرّر وسيدافع عن لبنان وثرواته، وبين ان يسهِّل انتخاب رئيس ضمن الخيار الثالث وتكليف رئيس حكومة وتشكيل حكومة، وذلك بهدف تنفيس الاحتقان الداخلي ونقل تركيز المعارضة من الحدود والسلاح والدور وتطبيق القرارين 1701 و 1559 على أثر الوقائع الاستراتيجية الجديدة، إلى إعادة إنتاج السلطة التي تخطف التركيز والأضواء والاهتمام، وبالتالي سيتساهل سلطوياً لشراء الوقت من جهة، وترتيباً لوضعه الجديد من جهة أخرى.

وفي سياق هذا الاحتمال، سيعمد «حزب الله» إلى إشغال المعارضة لأشهر في الانتخابات الرئاسية والتكليف والتأليف وجلسات الثقة، الأمر الذي يؤدي، بنظره، إلى حرف الأنظار عن الخلاف الاستراتيجي، ويؤدي إلى تبريد الأوضاع السياسية.

وقد يكون بدأ «حزب الله» يعدّ العدّة لليوم التالي على انتهاء الحرب، ومن الصعب استبعاد أي من الاحتمالات الواردة أعلاه، فإذا لم يحاول تعديل الدستور تشريعاً لسلاحه فمتى يحاول ذلك، خصوصاً انّ ترحيل هذا الهدف لوقت آخر قد لا يأتي، وعليه ان يضرب الحديد وهو حامٍ، وتحديداً لأنّ عامل الوقت بعد انتهاء الحرب لن يكون لمصلحته، وفي حال لم يذهب إلى الحدّ الأقصى بالدفع نحو مؤتمر تأسيسي كتعويض دستوري، فسيلجأ إلى التعويض السياسي من خلال إمساكه برئاستي الجمهورية والحكومة استباقاً لمحاصرته سياسياً في الداخل بعد خسارة ورقته الخارجية، وفي حال أراد وضع الماء في نبيذه في سياق براغماتية سياسية عالية لإخراج دوره وسلاحه من النقاش، فيلجأ إلى التراجع في الداخل مقابل التشدُّد بالحفاظ على سلاحه ودوره على رغم انتفاء مبررات السلاح نهائياً.

فأي احتمال سيعتمده «حزب الله» في الأشهر القليلة المقبلة بعد خروج «حماس» من غزة، وتسليم الحزب للحدود؟ ومن الآن إلى ان تنتهي الحرب، تبقى احتمالات توسُّع هذه الحرب قائمة، خصوصاً مع اعتبار إسرائيل انّها تخوض حرباً وجودية، ودخول واشنطن بقوة إلى مسرح القتال في العراق واليمن. إذ بقدر ما تتراجع قدرات «حماس» القتالية والتي عامل الوقت يلعب ضدّها بسبب الحصار ومخزون السلاح والإرهاق، بقدر ما ترتفع حماوة جبهات لبنان والعراق وسوريا. ولكن، هل يمكن ان تتطوّر إلى حرب شاملة أم ستبقى تحت السقف؟

QOSHE - 3 احتمالات للحزب في اليوم التالي - شارل جبور
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

3 احتمالات للحزب في اليوم التالي

3 0
15.01.2024

دخل لبنان مبدئياً في العدّ العكسي لإقفال بوابة الجنوب المفتوحة منذ العام 1967، وفي حال لم تطرأ أحداث غير منظورة، فإنّ الحدود ستعود للمرّة الأولى بعد عقود، إلى الشرعية اللبنانية، ولكن ماذا عن الحياة السياسية بعد هذا التطور التاريخي؟

سيواجه «حزب الله» للمرّة الأولى منذ نشأته مشكلة خسارة أحد أبرز أدواره الذي شكّل أحد أبرز أسباب صعوده العسكري والشعبي، فانتهاء حرب غزة يعني أن لا عودة إلى ما قبلها لا في غزة ولا في جنوب لبنان، وسيصعب على «حزب الله» وخلفه إيران، قلب الطاولة الدولية، وسيناريو العام 2006 بتعليق تنفيذ القرار 1701 لم يعد قابلاً للتكرار، وبمعزل عن الخطاب الرسمي للحزب، فلا شك بأنّه يدرك ضمناً بأنّ عملية «طوفان الأقصى» ستؤدي إلى خسارته ورقة الحدود المفتوحة لعملياته العسكرية.

ولا يفيد بشيء الكلام عن سلاح دفاعي او لحماية الثروات اللبنانية، فكل هذا النقاش الرامي إلى احتفاظ «حزب الله» بسلاحه لن يبدِّل في حقيقة انّ سيطرته على الحدود لن تعود قائمة، وانّ الحدود ستعود إلى الشرعية اللبنانية، وانّ قرار الحرب لن يعود ملكه، وهذا الوضع سيكون جديداً عليه وسيحاول تغطيته بغبار الخطابات من قبيل جهوزيته لمواجهة أي خرق إسرائيلي والأدبيات المعروفة، ولكن في الواقع سيكون عملياً أمام انتهاء دوره العسكري في مواجهة إسرائيل.

ولا شك انّ إيران ستحاول المستحيل لإبقاء الحدود اللبنانية تحت سيطرتها، وإبقاء الدور العسكري لـ«حزب الله» على ما هو عليه، ولكن الوضع الذي نشأ بفعل عملية «طوفان الأقصى» وضع طهران أمام خيارين: الحرب الشاملة التي لا يبدو انّها في وارد الذهاب إليها، وخسارة أوراقها العسكرية وتحديداً في غزة وجنوب لبنان، حيث انّ عملية 7 تشرين أيقظت مجدداً في اللاوعي الإسرائيلي، الخطر الوجودي الذي أعاد توحيد المجتمع وتقديم الأولوية العسكرية والأمنية على اي اعتبار آخر، والسعي إلى إزالة الخطر من داخل الكيان وعلى الحدود.

ولن تفلح كل محاولات........

© الجمهورية


Get it on Google Play