قادة العالم يشهدون قتل إسرائيل للفلسطينيين في غزة بلامبالاة فاقعة بوقاحتها. رغم التشويش على المشهد القاتم بتظاهرات احتجاج على إسرائيل من هنا ومواقف مؤيدة لفلسطين من هناك- حتى ولو كانت تتزايد عددا وحدةً مع الوقت في بلدان عديدة - غير أن هذا لا يغيّر من مشهد التجاهل والتقاعس الدولي والإقليمي الذي يلفّ الكرة الاأرضية، أمام قتل إسرائيل لشعب بأكمله، والمترافق مع سادية فظيعة، تحمّل الفلسطينيين مسؤولية ما يجري.

يشعر الفلسطينيون أن العالم قد تخلّى عنهم، وأنهم متروكون ومغلوبون على أمرهم، فيناشد معظمهم الله، على صفحات التواصل الاجتماعي، أن ينصرهم وينتقم لهم. نعم إنه الشعور العميق المشوب بالأسف والنقمة هذه المرة، أن "لا حول ولا قوة الا بالله". أحد شعرائهم قالها بحسرة خانقة: "لم يعد مهماً اليوم أن يحبنا أحد، يكفي أن يحبنا الملاك العظيم في سمائه الناصعة".

لماذا لا يبالي قادة العالم بقتل الفلسطينيين؟ لا يمكن، أمام هول ما يحدث، طرح السؤال بطريقة أقل وضوحاً وقساوة.

قبل أن أحاول الإجابة عن السؤال، حاصراً التفكير بعلاقة هؤلاء القادة بإسرائيل وبترابط مصالح دولهم بمصالحها، دعونا نتعرف أكثر على هؤلاء القوم، في أعلى سلّم السلطة السياسية العالمية.

إنهم أحفاد النظام الرأسمالي، بشقيه الغربي والشرقي. رأسمالية الملكية الخاصة في الأنظمة الديمقراطية، ورأسمالية الدولة في الاأنظمة المسماة شيوعية أو اشتراكية، والإثنان يضعان الربح فوق كل اعتبار إنساني آخر، ويبدّلان بالقيم والمشاعر الإنسانية بما يخدم هيمنة عقيدة الربح.

إنهم أبناء الثورة الصناعية، التي خرّبت المناخ العالمي والصحة العامة، وباتت تهدد وجود الإنسان على هذه الأرض.

إنهم آباء الذكاء الاصطناعي ومروّجي تقنيات إنجاب الإنسان من الجلد، بدون علاقة حب بين المرأة والرجل، ما سيحدث تحوّلاً جذرياً في تكوين الكائن البشري وصفاته، لصالح الآلة وقواعد اشتغالها.

هؤلاء أنفسهم أو آباؤهم أو أجدادهم، بدأوا بتعريف الإرهاب بحسب نشأته التاريخية، مباشرة بعد الثورة الفرنسية، كممارسة تقوم بها الدولة الناشئة نفسها، لترهيب ولجم مواطنيها في الداخل وأعدائها في الخارج، حفاظاً على أمن الدولة ونظامها. مع بدايات القرن التاسع عشر، راحت تظهر تعريفات أخرى، تصف منظمات وجماعات بالإرهابية، لأنها تواجه الدولة، وتستخدم العنف ضد المدنيين، لأغراض سياسية أو إيديولوجية أو دينية. انتقلنا من مفهوم إرهاب الدولة إلى مفهوم إرهاب الجماعات ضد الدولة.

على خط موازٍ، وبدل اعتبار الحرب ممارسة إرهابية تستخدم العنف ضد المدنيين قبل غيرهم، شُرّعت الحروب، التي خاضتها الدول الاستعمارية - الرأسمالية، في القانون الدولي، فابتكر هذا الأخير مصطلح "جريمة حرب"، وكأن الحرب ليست جريمة بحد ذاتها.

أمام هذا التراجع الأخلاقي في مسار المصطلحات ذات العلاقة بالعنف، وذلك تماشياً مع تطور مصالح الدول الاستعمارية والرأسمالية، ليس مستغرباً أن تُصنف عملية حماس بـ"الارهابية" لأنها قتلت مدنيين، فيما يُنظر إلى الحرب التي أعلنتها إسرائيل على غزة، بأنها عملية دفاع عن النفس، رغم أنها تقتل الآلاف من المدنيين، لكن تحت مسمّى "جرائم حرب" متفرقة.

المستغرب إلى حد الذهول، هو هذا الفصل التام لما يحصل، في خطاب قادة العالم، مع واقع احتلال إسرائيل لفلسطين. لا تريد الدول الاستعمارية - الرأسمالية، أن تعترف بالاحتلال كعامل مؤسس للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، وكفاعل مستمر في استمرار هذا الصراع وتأجيجه.

الدول الاستعمارية - الرأسمالية استمدت وتستمد نفوذها من احتلال أو استغلال خيرات العالم. الاحتلال الميداني للبلدان الأخرى، هو الجريمة التأسيسية لنفوذها، إنه بمثابة "خطيئتها الأصلية". كما أن تسهيل وتغطية وتثبيت أقدام احتلال إسرائيل لفلسطين، هو جريمتها الفرعية، التي لا تريد أن تعترف بها.

في الإرهاب، قتل وتدمير وإخافة وإفزاع ولجم للإرادة الفردية والجماعية، وخلقُ شعور دائم باللاأمان. فهل هناك حالة تولّد كل هذه المفاعيل، أكثر من الاحتلال؟ الإرهاب هو آلية إشتغال الاحتلال وشرط استمراره. الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، هو بحد ذاته، فعل إرهاب. ردود فعل الشعب الفلسطيني، من حماس وفتح وغيرها من جماعات لاعنفية، ليست الا أشكالاً متنوعة في مواجهة هذا الإرهاب وسبب وجوده، أي الاحتلال. وهذا ما لا تريد الدول الاستعمارية - الرأسمالية الاعتراف به، خدمة لمصالحها ومصالح إسرائيل المترابطة من جهة، ولأن هكذا اعتراف يشكل إدانة أخلاقية جذرية لها. وعلى ما يبدو، فإن قتل الفلسطينيين، من خلال تحويلهم جميعاً إلى ارهابيين، أقل كلفة، اقتصادية وأخلاقية، عليهم، من الاعتراف بالاحتلال. والكلفة، هي نقيض الربح، في الفهم الرأسمالي.

إبان أحداث مخيم عين الحلوة في لبنان، بين الفصائل الفلسطينية، كتبتُ تحت عنوان "فلسطيني": " اقتله إنه فلسطيني، قال الفلسطيني للفلسطيني، فهل هناك في هذه الدنيا من يأبه لقتل فلسطيني؟". عملية حماس لم تفتح أعيننا واسعاً، على قساوة العالم تجاه الشعب الفلسطيني، بل أيضاً على استهتار بعض فصائل المقاومة الفلسطينية، الدينية منها والتابعة للخارج خاصة، بحياة الشعب الفلسطيني، من خلال الإقدام على أعمال، من تبعاتها، تشريع الأبواب أمام الوحش الإسرائيلي، لإبادة الشعب الفلسطيني.

عندما يقتل الفلسطيني الفلسطيني، أو ينتهج استراتيجيات لا تبالي بحياة الفلسطينيين وعمرانهم، لا تستغربوا عندها، إذا كان المستعمر - الرأسمالي يتصرف، وكأن لا قيمة لحياة الإنسان الفلسطيني. ضميره لن يهتز إلا إذا رفع الفلسطيني بممارساته، وعقيدته الإنسانية، ومشروعه التحرري، من قيمة الإنسان الفلسطيني. وحدها المقاومة المدنية اللاعنفية اللادينية، قادرة على القيام بهذه المهمة النبيلة. فلم يعد مقنعاً بعد كل ما يجري اليوم، تكرار "أن إسرائيل لا تفهم إلا بالقوة"، إلا إذا كان المقصود أن لغتها المفضلة هي العنف، وهو طريقها الأكيد لإبادة الشعب الفلسطيني والقضاء نهائياً على قضيته المحقة.

QOSHE - لماذا لا يبالي قادة العالم بقتل الفلسطينيين؟ - غسان صليبي
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

لماذا لا يبالي قادة العالم بقتل الفلسطينيين؟

7 1
19.11.2023

قادة العالم يشهدون قتل إسرائيل للفلسطينيين في غزة بلامبالاة فاقعة بوقاحتها. رغم التشويش على المشهد القاتم بتظاهرات احتجاج على إسرائيل من هنا ومواقف مؤيدة لفلسطين من هناك- حتى ولو كانت تتزايد عددا وحدةً مع الوقت في بلدان عديدة - غير أن هذا لا يغيّر من مشهد التجاهل والتقاعس الدولي والإقليمي الذي يلفّ الكرة الاأرضية، أمام قتل إسرائيل لشعب بأكمله، والمترافق مع سادية فظيعة، تحمّل الفلسطينيين مسؤولية ما يجري.

يشعر الفلسطينيون أن العالم قد تخلّى عنهم، وأنهم متروكون ومغلوبون على أمرهم، فيناشد معظمهم الله، على صفحات التواصل الاجتماعي، أن ينصرهم وينتقم لهم. نعم إنه الشعور العميق المشوب بالأسف والنقمة هذه المرة، أن "لا حول ولا قوة الا بالله". أحد شعرائهم قالها بحسرة خانقة: "لم يعد مهماً اليوم أن يحبنا أحد، يكفي أن يحبنا الملاك العظيم في سمائه الناصعة".

لماذا لا يبالي قادة العالم بقتل الفلسطينيين؟ لا يمكن، أمام هول ما يحدث، طرح السؤال بطريقة أقل وضوحاً وقساوة.

قبل أن أحاول الإجابة عن السؤال، حاصراً التفكير بعلاقة هؤلاء القادة بإسرائيل وبترابط مصالح دولهم بمصالحها، دعونا نتعرف أكثر على هؤلاء القوم، في أعلى سلّم السلطة السياسية العالمية.

إنهم أحفاد النظام الرأسمالي، بشقيه الغربي والشرقي. رأسمالية الملكية الخاصة في الأنظمة الديمقراطية، ورأسمالية الدولة في الاأنظمة المسماة شيوعية أو اشتراكية، والإثنان يضعان الربح فوق كل........

© Annahar


Get it on Google Play