الكثيرون، عندنا، آمنوا بأن حصيلة آمالهم في خلاص البلاد مما تتخبط فيه، هي أقل بكثير مما ينبئ المخاض، إن حصل. فلا مؤشر استطاع أن يخترق جدار اليأس، وأن يبدد الصوت العدمي المتماهي مع الواقع الذي يندرج تحت عنوان: “حفار قبر الخلاص”، من هنا، فكل ما يسمع من تصريحات، ومناظرات، وخطب، ووعود، خاصة في الداخل، إنما يدخل في صلب الهذيان، ومناخ الأوهام العبثية، إن لم نقل في صلب الكذب، والخلط، والمداهنة.

وبعد، هل تلاشت ابتسامة الوطن أمام دمعة الكآبة، وتكفنت نشوة فرحه أمام هول الصدمة؟ إن المحسوس المعاش يؤكد، ومن دون أدنى شك، على أن الصدمة غلابة! وللأسف.

إذا راجعنا كل ما مررنا به، ولا نزال، فهو يقودنا، حتما، الى التصالح مع التشاؤم، لذلك، فعزيمة الإيمان برؤية فجر ساطع جديد يطل على بلادنا، باتت وهما، إذا راودتنا، إن لم نقل خطيئة. وبمجرد أن نقيم مقارنة بين لبنان التقدم الحضاري والثقافي، لبنان القيمة المضافة بنظر الشرق والغرب، وبين ما نحن عليه، اليوم، من طوفان الشر، وبلوغ العزلة، والإنحدار المتمادي صوب الإنحطاط، واختفاء بوارق الحرية والحقوق، وتفشي الفساد في جذور الناس…فكل ذلك يحملنا الى التأكيد على أن عصر الظلمات، عندنا، سوف يكمل دورته، وأن مسألة العودة الى العافية الوطنية ليست قريبة المتناول، إن لم تكن مستحيلة.

إذا استعرضنا، وبموضوعية، الواقع الذي يسطر يومياتنا، تظهر خطوطه العريضة، أمامنا، واضحة. وعليه، لسنا نرى إلا قلقا تراكميا، وخوفا بات من المسلمات، وكوة عبور الى اليأس، وجسد وطن لم تترك البربرية عليه سوى آثار تعذيب، وعقابا للناس مقصودا، وتدميرا نمطيا لكيان الدولة بشكل تصاعدي… في مقابل هذا التوتر، خصوصا على مستوى اهتزاز القيم الوطنية والإجتماعية، ومحاولة فرض نهج هجين على الناس بالترهيب، لسنا نواجه إلا محنة تسحقنا على صعيد الحياة اليومية، وكذلك، على صعيد مستقبل الوطن.

إن لبنان يخضع لبيعه في سوق التسويات، والتبادلات، وبصورة علنية، من دون أن يقف ” البائعون ” المعروفون، في الداخل وفي الجوار، على رأي أهله، ما يدعم الخطة التفكيكية للبلاد، ويجعل مساحتها شظايا، أو تجييرها جائزة ترضية للاعب إقليمي، ربما يدفع البديل، في المقابل. أمام هذا المشهد، لا يسعنا سوى أن نسأل: هل نحن، اليوم، في وضع المودع لنموذج “فريد”، قيل إنه مجرد خرافة ؟

أما في ما خص اليوميات، فالواقع الإقتصادي المتردي يختصر عنوان المرحلة، بمعنى أن ما يسيطر على حالة الناس، كل الناس، يختصر باللقمة، والدواء، والهجرة. لا أبالغ، أبدا، إذا نقلت الصورة الحقيقية المؤسفة لمعاناة اللبنانيين، فهناك جياع ما عادوا يكترثون إذا رآهم الناس يبحثون في النفايات عن فتات، وهناك مرضى يذبلون أمام أبواب المستشفيات، وجمعيات الغوث، حتى الكفن، وهناك طاقات من العقول والسواعد لقنها والدوها ثقافة الهجرة، فغادرت، أو استعدت… أمام هذا الواقع المرير، المرض يتفاقم، ولا علاج !؟

لسنا نتقبل، وهذا حقنا، تمويها لهذا الواقع من جانب صناع السياسة، فأمام انهيار منظومة الحقوق، وانتهاك الحريات، ومشهد ديمقراطية مزيفة تستر تسلطا، وتمييزا منظما بين درجات الرعايا، وتهميشا لدور الأكثرين، وإطباقا على قرار البلاد، واستبدادا حرم الناس حق التمتع بمواطنيتهم، والمجاهرة بشعائرهم في بعض المناطق، والتنعم بالعدل والحرية والمساواة… والحقيقة هي أن لبنان يتراجع الى الفراغ، والرعب، والعبث، والأنفاس المخنوقة، والتلاشي، وطعم الطين والرماد، والقلق، والكفر، وكأنه لا يتردد في تسليم نفسه الى الجزارين، حاملا جلجلته، ولا أعجوبة قيامة.

لست، هنا، أتراسل مع الدراماتيكية في ليلها الشاسع، ليغيب الأمل عن الوعي، بقدر ما أتوق الى استجلاء نور من الجمر، فكما أن الطبيب لا يستطيع معالجة مريض إن لم يتفحص مرضه، هكذا، لا يمكن الخروج من المأساة التي تلتهم البلاد، إلا بدرس عواملها، وأسبابها، ونتائجها، سبيلا الى النجاة، والخلاص، ومن ثم السعي الى إيجاد ما يناسب من حل لتحصين الوطن، وأهله، والحل ليس من أوهام العجائب والمعجزات، إنه صيغة ثورية هادفة تقود الى ما بعد الباطل، والأزمات، وثني الأعناق، والخيبات، وكدر السلطات، والجسم الميت… والصيغة تلك، ليست سوى الجمهورية الثالثة الإنتفاضية، وإن طلعت من رماد ” سادوم “.

QOSHE - أوهام الخلاص؟ (الدكتور جورج شبلي) - الدكتور جورج شبلي
menu_open
Columnists Actual . Favourites . Archive
We use cookies to provide some features and experiences in QOSHE

More information  .  Close
Aa Aa Aa
- A +

أوهام الخلاص؟ (الدكتور جورج شبلي)

11 0
21.01.2024

الكثيرون، عندنا، آمنوا بأن حصيلة آمالهم في خلاص البلاد مما تتخبط فيه، هي أقل بكثير مما ينبئ المخاض، إن حصل. فلا مؤشر استطاع أن يخترق جدار اليأس، وأن يبدد الصوت العدمي المتماهي مع الواقع الذي يندرج تحت عنوان: “حفار قبر الخلاص”، من هنا، فكل ما يسمع من تصريحات، ومناظرات، وخطب، ووعود، خاصة في الداخل، إنما يدخل في صلب الهذيان، ومناخ الأوهام العبثية، إن لم نقل في صلب الكذب، والخلط، والمداهنة.

وبعد، هل تلاشت ابتسامة الوطن أمام دمعة الكآبة، وتكفنت نشوة فرحه أمام هول الصدمة؟ إن المحسوس المعاش يؤكد، ومن دون أدنى شك، على أن الصدمة غلابة! وللأسف.

إذا راجعنا كل ما مررنا به، ولا نزال، فهو يقودنا، حتما، الى التصالح مع التشاؤم، لذلك، فعزيمة الإيمان برؤية فجر ساطع جديد يطل على بلادنا، باتت وهما، إذا راودتنا، إن لم نقل خطيئة. وبمجرد أن نقيم مقارنة بين لبنان التقدم الحضاري والثقافي، لبنان القيمة المضافة بنظر الشرق والغرب، وبين ما نحن عليه، اليوم، من طوفان الشر، وبلوغ العزلة، والإنحدار........

© Lebanese Forces


Get it on Google Play